يختلف المؤرخون في الحكم على الخليفة العباسي العاشر المتوكل على الله، جعفر بن المعتصم (232 247ه)، فيراه مؤرخو السلفية الخليفة الذي أعز الله به الإسلام، ونصر على يديه السنة، ولا غرابة فقد تحالفا سويًّا ضد كل الفرق والمذاهب الأخرى، وتعاونا في القضاء على المخالفين، ويراه عديد من المؤرخين المعاصرين رجلًا متعصبًا أرعن مهووسًا بامتهان وتعذيب وقتل كل من خالفه الرأي. كان عصر المتوكل عصرًا دمويًّا، أعلن فيه الحرب على الفرق الإسلامية المعتزلة والشيعة والصوفية، ولم يكن غير المسلمين بأحسن حال فقد سامهم المتوكل وحلفائه الحنابلة أو السلفيين سوء العذاب، تفنن في إذلالهم والتمييز ضدهم، وذلك بعدما أباح الإمام أحمد بن حنبل للخليفة المتوكل هدم كنائس السواد، وهي أرض العنوة، فأصدر أوامره على الفور بهدم هذه الكنائس ثم تلاها بقرارات تمييزية ضد غير المسلمين، يروي الطبري في تاريخه "وفي هذه السنة، سنة خمس وثلاثين ومائتين، أمر المتوكل بأخذ النصارى وأهل الذمة كلهم بلبس الطيالسة العسلية (شال كبير) والزنانير (الزُّنَّارُ: حزامٌ يَشُد على الوسط) ومن خرج من نسائهم فبرزت فلا تبرز إلَّا في إزار عسلي وأمر بهدم كنائسهم المحدثة، وبأخذ العُشر من منازلهم، وإذا كان الموضع واسعًا صير مسجدًا، وإن كان لا يصلح أن يكون مسجدًا صير فضاء، وأمر أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة تفريقًا بين منازلهم وبين منازل المسلمين"، وامتد التمييز إلى وظائف الدولة، يقول الطبري "ونهى أن يستعان بهم غير المسلمين في الدواوين وأعمال السلطان التي يجري أحكامهم فيها على المسلمين، ونهى أن يتعلم أولادهم في كتاتيب المسلمين، ولا يعلمهم مسلم وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض لئلا تشبه قبور المسلمين". ثم زاد المتوكل من اضطهاده لهم، كما يروي الطبري في سنة تسع وثلاثين ومائتين فأمر "أهل الذمة بلبس دراعتين عسليتين على الأقبية، والدراريع في المحرم، ثم أمر في صفر بالاقتصار في مراكبهم على ركوب البغال والحمر دون الخيل والبراذين". ولم يرو المؤرخون سببًا لهذا الاضطهاد والتمييز إلَّا أن حنبليًّا كبيرًا هو ابن القيم يذكر في أحكام أهل الذمة، ما يعده سببًا "وحج المتوكل تلك السنة فرأى رجلًا يطوف بالبيت ويدعو على المتوكل فأخذه الحرس، وجاءوا به سريعًا فأمر بمعاقبته فقال له: والله يا أمير المؤمنين ما قلت ما قلته إلَّا وقد أيقنت بالقتل، فاسمع كلامي ومُر بقتلي بعدها، فقال: قل، فقال: لقد اكتنفت دولتك كُتاب من الذمة أحسنوا الاختيار لأنفسهم وأساءوا الاختيار للمسلمين، وابتاعوا دنياهم بآخرة أمير المؤمنين وأنت مسؤول عما اجترحوا، وليسوا مسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فبكى المتوكل إلى أن غشي عليه، وخرج أمره بلبس النصارى واليهود الثياب العسلية.. وأن تهدم بيعهم المستجدة، وأن تطبق عليهم الجزية ولا يفسح لهم في دخول حمامات المسلمين، وكتب الكتاب بذلك". إن اعتبار هذه الرواية سببًا لهذه السياسة الفاشية لأمر جد غريب من ابن القيم، فلقد شكا الرجل من ظلم العمال الذميين وفصلهم المتوكل جميعًا، ففيمَ كان هدم الكنائس واغتصاب البيوت، والتمييز بالملابس ومنع الاحتفالات والصلوات وهدم القبور؟! امتدت يد المتوكل بعد ذلك بالأذى البالغ لأقباط مصر، وكانوا الأكثر حساسية للتمييز والامتهان في المملكة الإسلامية، لذا تعددت ثوراتهم ضد ظلم وتمييز ملوك بني العباس، وكانت آخرها ضد الخليفة السابع المأمون، الذي يفصله عن المتوكل خليفتين، وشاركهم في هذ الثورة كثير من الأعراب، وكانت ردة فعل المأمون عنيفة فقهر الثورة بعنف شديد، يروي المقريزي في الخطط "انتقض القبط في سنة ست عشرة ومائتين، فأوقع بهم الإفشين حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين عبد الله المأمون، فحكم فيهم بقتل الرجال وبيع النساء والذرية فبيعوا، وسبى أكثرهم، ومن حينئذ ذُلت القبط في جميع أرض مصر، ولم يقدر أحد منهم بعد ذلك على الخروج على السلطان، وغلبهم المسلمون على عامّة القرى، فرجعوا من المحاربة إلى المكايدة واستعمال المكر والحيلة ومكايدة المسلمين، فكانت لهم وللمسلمين أخبار كثيرة". كان للمجزرة التي قادها المأمون ضد أقباط مصر أثرها في عدم انتفاضهم مجددًا ضد مظالم المتوكل. لم تكن مثل هذه المظالم غريبة على عصر المتوكل وإن أباها الدين، فالناس كانوا رعية لحاكمهم يرعاهم بالسياسة التي يشاء، لكن الغريب أن يكون بعصرنا من لا يرى غضاضة بهذه السياسات ويسمح له بممارسة السياسة.