كشفت الاحتجاجات التي اشتعلت في أمريكا خلال الأيام الأخيرة عن وجه الدولة العنصري التى أرادت أن تخفيه تحت ستار الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، احتجاجات مدينة فيرجسون ليست الأولى ولن تكن الأخيرة فهي جزء من سلسلة تتشابك يومًا تلو الآخر لتضع عدة تحديات جديدة أمام الإدارة الأمريكية التي كثيرًا ما عجزت عن مواجهتها أو حلها. تثبت الأحداث دائماً أن بذور العنصرية ما زالت كامنة في النفوس، وأن جذورها لا تزال ضاربة بعمق في السياسات الأمريكية رغم كل المزاعم التي تتحدث عن وجود قوانين المساواة والحرية واحترام حقوق الإنسان، ومواعظ "باراك أوباما" البليغة عن العنصرية عندما كان مرشحًا للرئاسة، حيث بدا وكأنه هو الذي يمكن أن يوحد البلاد. الأزمات العنصرية المتلاحقة جاءت لتعيد تذكير الأمريكيين بأن آلام الماضي ومشاكله لم تحل، بعد أن كانت معاناة السود في المجتمع الأمريكي اختفت رسميًا على الأقل، مع إعلان الرئيس الأمريكي "إبراهام لينكولن"، عام 1862 قانون "تحرير العبيد"، لكنها لم تختف على الأرض بل تأججت خاصة في عهد "أوباما"، فبالرغم من القوانين والتشريعات المناهضة للعنصرية التي أنتجها المجتمع الأمريكي من عهد الرئيس "أبراهام لينكولن"، إلا أن العنصرية لاتزال حاضرة في الأذهان الأمريكية. في السابع عشر من يوليو عام 2014 اشتعلت احتجاجات عارمة في مدن أمريكية عديدة على إثر مقتل "إريك غارنر" اختناقًا في جزيرة "ستاتن" إحدى مناطق نيويورك في الولاياتالمتحدةالأمريكية أثناء محاولة رجال الشرطة اعتقاله. بدأت الاحتجاجات سلمية فيما لم تتوانى الشرطة الأمريكية عن التعامل معها بعنف شديد، من خلال محاولات فض التظاهرات بالقوة واستخدام الغازات المسيلة للدموع وخراطيم المياه والاعتقالات والضرب والسحل، وهو ما جعل المتظاهرين يصرون على الخروج في مسيرات حتى تم تبرئه الشرطي القاتل في ديسمبر من نفس العام، وانطلاقًا من هنا اشتعلت وتأججت التظاهرات أكثر فأكثر، وحينها أغلق المتظاهرون أحد الشوارع قرب البيت الأبيض في واشنطن، وامتدت التظاهرات لتطال مدينة نيويورك وصولاً إلى مدينة أوكلاند في ولاية كاليفورنيا. في التاسع من أغسطس عام 2014 بدأت في فيرجسون بولاية ميزوري احتجاجات عارمة جديدة، إثر إطلاق النار المميت على الشاب "مايكل براون" البالغ من العمر 18 عاما، وقتله في حينها على يد الشرطة الأمريكية أيضًا، وتضامناً مع هذا الشاب بدأت تحركات احتجاجية في المدن الكبرى، وعلى رأسها نيويورك وشيكاغو والعاصمة واشنطن، فرضت حينها الشرطة حظر التجول، ونشرت قوات مكافحة الشغب، واستمرت الاضطرابات إلى ما بعد تبرئة ضابط الشرطة الذي أطلق النار على "مايكل براون" من جهة هيئة محلفين كبرى. في أبريل 2015 اشتعل الغضب العارم من جديد إزاء معاملة الشرطة للأمريكيين من أصل أفريقي، حيث جاء حادث وفاة الشاب "فريدي غراي" البالغ من العمر 25 عاما ذي الأصول الإفريقية ليكمل سلسلة الحوادث العنصرية الأمريكية، في البداية تظاهر أكثر من ألف شخص في بالتيمور بولاية ميريلاند شرق الولاياتالمتحدة، احتجاجاً على وفاة الشاب "غراي"، متأثرا بكسور أصيب بها في فقرات الظهر أثناء اعتقاله من قبل الشرطة الأمريكية، وذلك بعد أسبوع على توقيفه في 12 أبريل في حيّ شعبي بهذه المدينة التي يبلغ عدد سكانها 620 ألف نسمة. تدهور الوضع فجأة وتصاعد التوتر عندما توجه عشرات المتظاهرين إلى ملعب البيسبول "كامدن ياردز"، قبل ساعة من بدء مباراة بين فريقي بالتيمور أوريولز وبوسطن ريد سوكس، مما أدى لسقوط عشرات المصابين نتيجة الاشتباكات بين الشرطة والمدنيين، وخلال تشييع جنازة الشاب "غراي" تطور الأمر ليصبح أشبه بحرب الشوارع، حيث قام مئات من المحتجين الغاضبين بنهب متاجر وإشعال النار في مبان مع انتشار العنف في المدينة، وتفجر العنف على مسافة قصيرة من جنازة "غراي"، ثم انتشر إلى مناطق في بالتيمور، وهو ما أدى إلى إصابة 15 شرطيًا على الأقل بعدما ألقى المحتجون الحجارة وأحرقوا مباني وسيارات دورية للشرطة. في أعقاب تصاعد أحداث الشغب في الولاية أعلن حاكم ولاية ميريلاند الأمريكية حالة الطوارئ، حيث وضع حاكم ولاية ميريلاند الحرس الوطني في حالة تأهب، وأمر بإرسال تعزيزات من الجنود إلى بالتيمور، كما فرضت رئيسة بلدية بالتيمور حظرا ليليًا على التجول ابتداء من 27 إبريل ولمدة أسبوع من الساعة ال10 مساء إلى ال5 صباحا، كما لم تقتصر التظاهرات على مدينة بالتيمور بل اتسعت لتشمل عدة مدن أمريكية، حيث نظم المتظاهرين في فيلادلفيا تظاهرات احتجاجية حاشدة، ورغم بعد فيلادلفيا الجغرافي عن ولاية ميريلاند، إلا أنها شهدت عدة مسيرات احتجاجية، وتم رفع لافتات منددة بالجريمة وبطريقة تعاطي الشرطة معهم، وأكد المتظاهرون على أن القوات الأمنية تستخدم القوة المفرطة ضد السود ما يؤدي بشبابهم العزل إلى القتل في عدة مدن أمريكية أبرزها كيفلاند وفيرجسون في ولاية ميزوري ونيويورك، بالإضافة إلى مدن أخرى. يبدو أن وضع ذوي البشرة السمراء لم يتغير كثيرًا حتى مع وصول أول رئيس أمريكي أسود إلى الحكم، فالحوادث العنصرية ازدادت وتيرتها ولاتزال هذه الفئة مهمشة في المجتمع الأمريكي وتعاني من مشاكل الفقر وتدني المستوى المعيشي والخدمات الاجتماعية أكثر من أي فئة أخرى.