كانت كتابات جمال حمدان، تأخذ دائما سياق الدراسات الإشكالية، والتي كان يحاول من خلالها صياغة بدائل كمخرج لتلك الإشكاليات بعد تحليل طويل ومجرد لواقع لا يكون فيه حبيس خيبة أو مجد الماضي، أو شريد طموح أو تشاؤم المستقبل، ومن هنا نجد أنفسنا لسنا بحاجة للحديث عنه بقدر حاجتنا للاستماع له، وأننا لسنا بحاجة في ذكرى وفاته أو إن صح قتله أن نسترسل السطور لرثاء شخصه، أو تمجيدا لفكره، بل بحاجة أن نتركه هو ينعي نفسه وينعينا ويكتب لنا ليقول: إننا كشعب -لابد لنا بصراحة أن نعترف- لا نحب أن نمجد ونطرى أنفسنا بحق وبغير حق, ولكننا أيضا نحب أن نسمع عن أنفسنا ما يرضينا ويعجبنا أو يرضى إعجابنا بذاتنا الوطنية وشخصيتنا القومية، بل إننا لنكره أشد الكره أن نسمع عن عيوبنا وشوائبنا ونرفض بإباء أن نواجهها أو نُواجَه بها، ولا تكاد توجد فضيلة أو ميزة على وجه الأرض إلا وننسبها إلى أنفسنا ونلصقها بها، وأيما رذيلة أو عيب فينا -إن هي وجدت على الإطلاق- فلا محل لها من الإعراب أو الاعتراف، وإن اعترفنا بها على مضض واستثناء فلها عندنا من العذر الجاهز والمبرر والحجة المقنِعة أو المقنَّعة.. ليس هذا فحسب أو ليت هذا فحسب، فما أكثر بعد ذلك ما نقلب عيوبنا عن عمد إلى مزايا ونقائصنا إلى محاسن، بل اسوأ من ذلك قد نتباهى ونتفاخر بعيوبنا وسلبياتنا ذاتها، ولعل هذا تجسيد لقمة ما سماه البعض "الشخصية الفهلوية"، ويبدو عموما أننا كلما زاد جهلنا بمصر كلما زاد تعصبنا لها، بل الملاحظ أننا كلما ازدادت أحوالنا سوءا وتدهورا كلما تفاخرنا بأمجادنا وعظمتنا.. الخ. أهو نوع من الدفاع الطبيعي عن النفس للبقاء، أم خداع للنفس قاتل، أم هو الأول عن طريق الثاني؟ أيا ما كان، فنحن معجبون بأنفسنا أكثر مما ينبغي، وإلى درجة تتجاوز الكبرياء الصحي إلى الكبر المرضى، ونحن نتلذذ بممارسة عبادة الذات في نرجسية تتجاوز العزة الوطنية المتزنة السمحاء إلى نعرة حب الذات الساذجة البلهاء أو الهوجاء، إنه مركب عظمة بكامل أبعاده وبكل معنى الكلمة، بل كما نرى حولنا بالفعل، مقتل حقيقي كامن للشخصية المصرية، فمن المحقق الذى لا يقبل جدلا أو لجاجا أن كل مركب عظمة فعلى أو مفتعل إنما هو "مركب نقص مقلوب"، إنه تعويض مريض عن شعور هو أصلا مريض أكثر، شعور بعدم الثقة، بالعجز والقصور ، باليأس والضمور والإحباط والانحدار...الخ. فنحن نضخم من ذاتنا إلى حد السخف، ونكاد نؤله مصر حين ننتصر، بينما ننهار ونكاد نسب أنفسنا عند أول هزيمة أو انكسار، حتى عن مستقبل مصر، نحن إما متفائلون بإسراف يدعو إلى السخرية والإشفاق، أو متشائمون إلى حد متطرف قابض للنفس، باختصار، مصر إما (بخير) دائما أو (في خطر) أبدا، وكلا الحُكمين لا يرى أو يضع الحقائق في حجمها الطبيعي السليم. ونقول في هذا الوقت، تجد مصر نفسها بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة النظر والتفكير في كيانها ووجودها ومصيرها بأسره: من هي؟ وما هي؟ وماذا تفعل بنفسها؟ بل ماذا بحق السماء يُفعل بها؟ وإلى أين؟ ونختم له بقوله "في هذا الوقت الذي يضطرب فيه الفكر في مصر ويضطرم بحثاً عن شخصيتها ودورها الإنساني والحضاري.. فإننا في حاجة إلى فهم كامل لوجهنا ووجهتنا، لكياننا ومكانتنا، لإمكانياتنا وملكاتنا.. وأيضاً لنقائصنا ونقائضنا، بلا تحرج ولا تحيز أو هروب". المصدر: مختارات من موسوعة شخصية مصر، جمال حمدان, دار الهلال, 1984م.