من باب نقد الذات المصرية يقول د. جمال حمدان في موسوعته "شخصية مصر": "لقد اعتمدنا أكثر مما ينبغي علي تاريخنا وأمجادنا القديمة.. كنا نستعمل تاريخنا وحضارتنا العريقة كسلاح سياسي ضد الاستعمار تأكيداً لذاتنا ورفعاً لروحنا المعنوية في الصراع.. وهذا حق مشروع وواجب.. إلا أننا أسرفنا علي أنفسنا في استعماله حتي بتنافي خطر الهروب من الحاضر إلي الماضي بانتظام.. فنحن مازلنا نعيش علي أطلال وأحداث تاريخية كأم الدنيا وأم الحضارة.. ومازلنا نتعاطي هذه المكيفات التاريخية وندمن هذه المخدرات المعتقة التي أصبحت تستثير اما السخرية أو الاشفاق من الأشقاء والأصدقاء والأعداء علي السواء". وليست هذه بالتأكيد دعوة إلي نبذ روائع ماضينا أو إلقاء أمجادنا القديمة في البحر.. ولكن هذا الادمان لما يسميه د. حمدان بالمكيفات التاريخية ما عاد يجدي في القرن الواحد والعشرين وأمام متغيرات العصر.. كذلك نحن مازلنا نتباهي بالأصالة ونمجد كل القيم المتوارثة وتقاليد وأخلاقيات القرية المتهالكة المتحجرة دون فرز وتمحيص التي لا تمثل إلا رواسب الطغيان والاستبداد والذلة وقيم العبودية وأخلاقيات العبيد وتقاليد الرياء والنفاق.. بل وننقل هذه القيم من الدائرة الاجتماعية الأسرية والعائلية إلي الدائرة السياسية .. ونفرض علي الناس النظر الي السلطة وإلي الرئيس نفس النظرة الأبوية أو القبلية القديمة. وهذا كله لا يعكس إلا افلاساً فكرياً وحضارياً وسياسياً مروعاً.. حتي تكلست مصر وأصبحت كجثة راكدة خاملة هكذا يقول د. حمدان وصارت تقريباً "دولة مشكلة".. ومهما اختفلت الآراء بين الرضا والرفض.. وبين التهويل والتهوين.. فلن تختلف علي أن مصر ليست في أحسن أحوالها بالقطع.. إن لم تكن حقاً في أسوئها. وللخروج من هذه الحالة الرجعية لابد أن تنشغل مصر بالمستقبل أكثر مما تنشغل بالماضي.. لابد أن تبحث عن حلول لمشكلاتها من خلال الشباب والطموح ولابد أن تسلم قيادتها لأجيال تتفاعل مع تحديات الحاضر ولا تترك أمر حكمها لسكان القبور.. بمعني أن الحل لن يأتي أبداً من الأموات مهما كانت عظمتهم.. وإنما الحل قطعا يأتي في الأحياء القادرين علي التفكير والابداع والتحدي. يقول د. حمدان في كتابه "شخصية مصر": كفانا إذن حديثا عن مزايانا ومناقبنا.. فهي مؤكدة ومقررة وهي كفيلة بنفسها.. ولنركز من الآن علي عيوبنا.. لننظر إلي عيوبنا في عيوننا في مواجهة شجاعة.. لا لننسحق بها ولكن لنسحقها.. لا لنسيء إلي أنفسنا ولكن لنطهر أنفسنا.. فعيوب الشخصية المصرية خطيرة وليست بالهينة أو الشكلية.. فهي التي أوردتنا مورد التهلكة في الماضي ووسمت أو وصمت وسودت تاريخنا بالعبودية للطغيان في الداخل دائما وللاستعمار في الخارج غالبا. وبعد مرور أكثر من ثلاثين عاما علي اللحظة التاريخية التي كتب فيها د. جمال حمدان موسوعته ووضع فيها يده علي واحد من أخطر عيوبنا أظن أن نصيحته ورؤيته مازالت صالحة حتي الآن لتأخذها مأخذ الجد.. فمازلنا في حاجة إليها.. ومازال واقعنا يعاني من نفس العيب. وأكمل غداً إن شاء الله.