لست قلقا علي مستقبل مصر, وإن كنت قلقا من إخفاقات شركاء ثورة 25 يناير. أقصد الانزلاق إلي: استخدام لغة التكفير والتخوين والإقصاء والإنذار والوعيد, وإدارة تناقضات رؤاهم ومقاصدهم بأساليب تزيد مخاوف عدم اليقين. ومصدر عدم قلقي أن المصريين قد شقوا بثورتهم طريقا لا رجعة فيه بتقويض آخر أعمدة الطغيان, الذي كان ظاهرة واقعة ونغمة حزينة في تاريخ مصر, كما خلص جمال حمدان في شخصية مصر. وسوف أتناول أدناه كيف تداعت ركائز الطغيان, ولكن لنتذكر- باديء ذي بدء- وعد ثورة 25 يناير بإنهاء عصر الطغيان. فقد تمرد شباب مصر, واحتضنهم شعب مصر, وحماهم جيش مصر, وتقدمت مصر علي طريق لا راد له, في اتجاه معاكس لما ردده جمال الدين الأفغاني: إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد, وربيتم في حجر الاستبداد, وتوالت عليكم قرون, وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين, وتعانون وطأة الغزاة الظالمين, تسومكم حكوماتكم الحيف والجور, وتنزل بكم الخسف والذل, وأنتم صابرون بل راضون! ولا جدال أن الديموقراطية هي ركيزة تحقيق حقوق المواطنة, السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وبدون إنتقاص, وسبيل بناء دولة المواطنة المدنية, غير الدينية وغير العسكرية. وحتي لا تضل الأمة طريقها, فتقع في شراك خداعية تدمر فرص التطور السلمي والتفاعل الديموقراطي, علي النخبة- المدنية والعسكرية, العلمانية والدينية- أن تستهدي بالعلامات الإرشادية التي سجلها عبد الرحمن الكواكبي في مؤلفه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد, حتي تقطع الطريق علي مخاطر هدر الثورة بالإستبداد, أيا كانت ذرائعه وشعاراته! ولنتذكر أن الاستبداد- بكلمات الكواكبي- يعني أن تتصرف الحكومة في شئون الرعية كما تشاء, بلا رقيب أو حسيب, ومبعث الاستبداد هو غفلة الأمة! فالأمة التي لا تقيم من نفسها رقيبا علي الحكام, تحاسبهم عن كل صغيرة وكبيرة أشد حساب, سيستبد بها حتما وكلاؤها, إذ إن الاستبداد أمر طبيعي في السلطان! وما من حكومة عادلة تأمن المسئولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمة أو إغفالها إلا وتسارع إلي التلبس بصفة الاستبداد, وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه! وفي نقده لمزاعم أن مصر أرض الطغيان, يبرهن جمال حمدان في مؤلفه الموسوعي شخصية مصر وصبحي وحيدة في كتابه الفريد في أصول المسألة المصرية علي اللغو الفارغ للنظرية التي تزعم أن الشرق نزاع بطبعه إلي الاستبداد والغرب إلي الديموقراطية. باختصار, لأن الاستبداد أو الطغيان حقيقة عرفتها معظم البلاد في معظم العصور علي اختلاف بيئاتها, وما عرفته مصر في أغلب تاريخها من طغيان إنما كان روح العصر. وتسجل البحوث التاريخية الرصينة أن الاستبداد في التاريخ القديم قد طغي في بابل وآشور وفارس وفينيقيا والهند والصين وكل حضارات العالم الجديد. وأما اليونان وروما, التي جعل البعض منها أسطورة الديموقراطية ومنبع الحرية, فقد كانت مثالا بشعا للاستبداد والظلم والتعذيب, بل كانت مجتمعات العبودية الكلاسيكية! وكان المجتمع الإقطاعي الأوروبي في العصور الوسطي نظاما استبداديا سافرا, وكان الفلاح الأوروبي قنا, بينما لم تعرف العبودية من قبل مثلما لم تعرف القنانة من بعد. أي أن الإنسان الأوروبي ربما كان أسوأ حالا وحظا من الإنسان المصري, سواء في العصور القديمة أو الوسطي. وفي العصر الحديث, إذا كان الاستبداد قد طال أمده في مصر بعد تصفيته في أوروبا, فقد كان ذلك بفعل الاستعمار الأوروبي الذي كرسه حماية لنهبه مصر! وما أكثر ما تتردد كلمة خنوع الفلاح وأرض الطغيان في معظم ما كتبه أعداء وخصوم مصر عن تاريخها, ولم ننج نحن من ترديد النغمة نفسها. ويورد جمال حمدان ما خلص اليه بارتلمي سانت هيلير في كتابه رسائل عن مصر, بقوله إنه منذ الفراعنة كتبت علي سكان مصر العبودية السياسية, وإني لأبعد ما أكون عن القول بأن النيل هو السبب الوحيد لهذا الوضع المحزن, وإني لمدرك أن ثمة كثيرا من الناس أكثر عبودية وبؤسا دون أن يكون لديهم نيل. كل ما أود أن أقول هو أن النظام الطبيعي لهذا النهر العظيم كان في مصر أحد أسباب الطغيان, لقد وجد فيه الطغيان نوعا من الضرورة, وكذلك حجة وذريعة خاصة. لكن الطغيان لا يعبر عن طبيعة كامنة في مصر, بيئة أو شعبا, وإنما شخصية مصر الحقيقة هي التعاون والتضامن والنظام ركائز حضارة النيل, التي شوهها الاستبداد كما يسجل صاحب شخصية مصر. وقد حتم النيل النظام والتنظيم والانضباط والتعاون وروح الجماعة, وهي مزايا مجتمعية ونقاط قوة للشخصية المصرية. وفرضت ضرورات ضبط النيل ومواجهة أهواء الفيضان قد أن يختار المصريون بين بديلين: إما التعاون والاستقرار أو الحرية والصراع, كما يقول جمال حمدان. ولا شك أن مصر قد دفعت تاريخيا ثمنا فادحا جدا من المجتمع لصالح الحاكم حفاظا علي الوحدة السياسية والاستقرار السياسي. وقد أنهي التحرر من الاستعمار دوره في تكريس الطغيان, وصار صميم المشكلة ليس ضبط النيل, ولا ضبط الناس, وإنما ضبط الحاكم! وفي ظل الطغيان تصبح الأمة وهي لا يحكمها خيرة أبنائها, بل ربما شر أبنائها أحيانا, كما يقول جمال حمدان! وأضيف أن بناء السد العالي قد أنهي دور النيل في تبرير الطغيان الفرعوني الطراز! وبقي الخطر الحقيقي للطغيان نابعا من الشعب والحاكم. فالشعب هو الذي يصنع الطاغية; لأن أمره كما يقول المثل الشعبي المصري: قال يا فرعون من الذي فرعنك؟ قال لم أجد من يمنعني! ولنتذكر ما يقوله الحديث الشريف: كما تكونوا يول عليكم! وأن كل سلطة مفسدة.. والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة! وأن الشعب ينال الحاكم الذي يستحقه! فالحاكم الطاغية صنيعة شعبه الذي سمح له بأن يكون ويبقي حاكما! ولنتذكر أن ثورة 25 يناير قد أطاحت بطغيان آخر الفراعنة; فتداعت آخر أعمدة الطغيان, وأن المجلس الأعلي قد أعلن بجلاء ما بعده جلاء أنه يستعجل نقل الحكم الي سلطة مدنية منتخبة. ويبقي التحدي أن تدرك النخبة السياسية مسئوليتها عن عدم هدر هذه الفرصة التاريخية, بشغف الانتقام أو وهم الإختطاف, حتي يصنع المصريون تاريخا جديدا ببناء دولة المواطنة الديموقراطية; فينتهي ما جعل كتاب سندباد مصري- كما سجل مؤلفه حسين فوزي- مرثية طويلة, بدلا من أن يكون ملحمة تاريخية. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم