في الجرائم التقليدية تطلب النيابة من المتهم إعادة تمثيل جريمته كدليل على قيامه بها. هذا ما حدث في فيلم «فعل القتل»، إذ أقنع المخرج جوشوا أوبنهايمر، فريقًا من القتلة، بإعادة تمثيل جرائمهم في واحدة من أبشع جرائم التطهير السياسي في أندونيسيا عام 1965 بدعم أميريكي. قدم أوبنهايمر –الأميريكي الذي يعمل في الدانمارك- فيلمين وثائقيين طويلين «فعل القتل» إنتاج 2012، نال عنه جائزة البافتا لأفضل فيلم وثائقي 2014، وجائزتي الجمهور ولجنة التحكيم في مهرجان برلين 2013، وفيلم «نظرة الصمت» 2014، الذي حاز على جائزة فيلم السلام في مهرجان برلين 2015، الفليمان عرضتهما سينما زاوية في إطار فعاليات مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة «دي كاف» الذي بدأ فعالياته الأسبوع الماضي. «فعل القتل» في عام 1965 أطاح الجيش بالحكومة الإندونيسية، واعتبرت الدكتاتورية العسكرية الجديدة أي معارض لها، شيوعياً يجب قتله. وخلال عام واحد، تمت تصفية أكثر من مليون أندونيسي بتهمة الشيوعية، واستعان الجيش بمجموعات من "البلطجية" لتنفيذ تلك المذابح، منهم التقط المخرج شخصيات شديدة الخصوصية من بلطجية دور السينما، إذ كان عملهم بيع التذاكر في السوق السوداء، ليكونوا أبطال فيلمه، وهم: أنور كونغو من أصول أثيوبية، ومساعده هيرمان كوتو، وزميله أدي زوالقادري، كانوا يعشقون الأفلام الأميركية ولاسيما البوليسية منها، في حين شن الحزب الشيوعي، حملة ناجحة لمقاطعة الأفلام الأميركية، ما أدى إلى توقف مصدر الرزق الرئيسي لبلطجية السينمات، ما شجعهم لاحقًا على الانضمام إلى منظمة القتل، التي ظهرت بعد انقلاب سوهارتو على حكم سوكارنو. الدراما التسجيلية عمل المخرج على الفيلم لأكثر من 10 سنوات، بحث وتسجيل ومحاولة فهم، بدأ مشروعه بمحاولة الحديث مع أهل الضحايا، ورصد استمرار تهميشهم وتخويفهم مقابل الشرعية التي نالها القتلة، لم يكن من السهل فهم ماحدث، فأراد تحليل العلاقة بين العنف السياسي ومواقف الناس منه، لذا وبدلاً من الأسلوب التقليدي للوثائقي، طلب المخرج من أنور وزملائه أن يعيدوا تمثيل ما قاموا في فيلم يقدمونه في نوع السينما التي يفضلونها، لنغوض معه في نفسيات من يمارسون هذه الجرائم وكيف يبررونها لأنفسهم، وسط حس عال من السخرية السوداء، والرصد والتحليل لدوافعهم وأنماطهم السلوكية لارتكاب هذه الأفعال الوحشية. يختار أنور وزملاؤه شكل الفيلم الذي يحبون أن ينفذوا فيه وسائل قتلهم، فتارة نراهم يؤدون أدوار أفلام الغرب الأمريكي أو الإثارة وأحياناً فيلم موسيقي مع راقصات، كما يظهر في البوستر، أو فيلم حرب، في مكان شبيه بالقرية التي ارتكبت فيها المجزرة. وفي شكل متطور من الدراما التسجيلية، أصبح لدينا رؤيتان متعاكستان، فيلمان في واحد، بين تباهي القتلة، وإدانة المخرج لهم. في العنوان جاء استخدام كلمة "act" التي تحمل أكثر من دلالة فهي تعني الفعل وكذلك التمثيل والمشهد أيضًا، ولا تتوقف الثنائيات عند فيلمي المخرج والقتلة، فجوشوا يطمح للمزيد من المزج بين الروائي والوثائقي، الواقعي والسريالي، وبين الإنساني والسياسي، الإدانة ومحاولة التحليل، إلى آخره من الثنائيات على مدار الفيلم الطويل. يتجاور الفيلمان ويتبادلا الأدوار، طوال العمل، ويستمر تنوّع مستويات السرد ويتصاعدا دراميًا مع تكشف مساحات خفية من شخصيات أبطال الفيلم، القتلة خاصة أنور الذي اعترف أنه قتل عددًا ضخمًا يصل إلى الألف، يتابعه جوشوا ويرصد تغيرات مشاعره وانفعالاته وأفكاره وحتى كوابيسه، إلى أن تحين اللحظة التي يتواجه فيها الفيلمان: في مشهد يقوم فيه أنور بتجسيد دور الضحية، لكنه يضطر لإعادة تمثيل المشهد لمرات، ثم يتحدث عن إحساسه بالرعب، وانعدام الكرامة أثناء تأدية المشهد. ويتساءل إن شعر الضحايا الحقيقون بما شعر به أثناء تمثيله دورهم. ليجيبه أوبنهايمر في مشهد نسمع فيه صوته من وراء الكاميرا بأن القتلى الحقيقيين كانوا أكثر رعباً، لأنهم كانوا يقتلون بالفعل وليس تمثيلًا. «نظرة الصمت» لم يتخل المخرج عن مشروعه الأول وعاد ليقدم الأحداث بعيون الضحايا، واختار شقيق أحدهم "ادي"، أخصائي النظارات الطبية، ليلتقي مع القتلة في فيلمه "نظرة الصمت"، كجزء ثان ل«فعل القتل». وفيه يواصل الغوص وتحليل قصص الإبادة، من وجهة نظر الضحايا (عبر الناجين منهم وعائلاتهم)، مقابل منظور القتلة، ويجمعهم في مشاهد مشتركة لتذكر الحدث من زوايا متناقضة، فيستجوب القتلة عبر شقيق أحد الضحايا، ثم يرصد استجابات وردود أفعال الطرفين. استثمر اوبنهايمر مهنة أدي، كتقني فحص النظر، في زيارة ما تيسر من القتلة وشهود الحدث من كبار السن. وتبدو اللقطات التي يضع فيها العدسات على أعين الشخصيات، وهو يسأله.. هل تغيرت رؤيتهم، كأنها معادل بصري رمزي عن رؤية الماضي، ليضع الفيلم، القتلة وأهالي الضحايا وجهها لوجه. «ادي» هو ابن جيل لم يشهد المأساة التي قتل فيها شقيقه راملي، ولد بعدها بقليل، لكنه ظل يعاني من آثارها مع عائلته التي تعرضت للعزل والاضطهاد كغيرها من عائلات الضحايا، الناجين من المجزرة، الذين اضطروا لتغيير قناعتهم، لأن القاتل فاز بالسلطة. يستغرق الفيلم في متابعته للحياة اليومية لوالدي أدي، تجاوزا المائة عام، وبموازاة جمال الطبيعة، نرى مشاهد غاية في العذوبة للوالدين. الشيخ الذي يعاني الزهايمر، وزوجته تغسل جسده الذابل. هي تتذكر بدقة تفاصيل قتل ابنهما، بينما ينعم الأب بالنسيان، ولا يسترجع من تلك المرحلة سوى أغنية غزل يغنيها. في المقابل يواصل «ادي» رحلة البحث لأنه كما يقول في الفيلم لا يريد لطفليه أن يكبرا في مجتمع يقبل صمت الضحايا وتعايشهم مع القتلة، ويقبل معاملة القتلة كأبطال، وحكام، ليصدمنا بأن خال ادي، كان حارس مجموعة المعتقلين، وبينهم ابن اخته قبل إعدامه. تبدو شهادات القتلة حية ومحفورة في ذاكرتهم، رغم مرور أكثر من نصف قرن، وتقدم العمر بالجميع. ويرصد الفيلم الاستجابات العفوية لهم ول ادي، وهو يحاورهم، فنري القتلة في بداية المقابلات يفتخرون بما فعلوا، ويصفون وحشيتهم بالبطولة: أحدهم عجوز برفقة ابنته، يتفاخر بشرب دماء ضحاياه، لأن ذلك يجعله يحتفظ بعقله ولا يتعرض للجنون، ويصف العملية بسادية واضحة، بينما ينظر إليه ادي بنظرة صامتة، محملة بالكثير من الأسى تخفي غضبه أو اشمئزازه. نظرة «ادي» الصامتة تلك، هي ما منحت الفيلم عنوانه، يركز عليها المخرج ومنها حالته وهو يشاهد تسجيل فيديو لقاتلي أخيه عن تفاصيل جريمتهم البشعة، الصمت كان أيضًا سياقًا عامًا، للتعامل مع هذه الجرائم محليًا وعالميًا، فالسلطة المنتصرة تكتب تاريخها، فنتابع ايدي مع أطفاله يعرض الدعاية التي تبثها السلطة في كتبهم المدرسية عما حدث، إذ تنقل له ابنته رؤية المعلم الذي يقول بإن الشيوعيين كفار، لا يؤمنون بالله، ويتبادلون زوجاتهم وقساة القلوب، مبررًا ما حدث لهم من إبادة. فيما ضمّن أوبنهايمر فيلمه مقاطع أرشيفية من التغطية الإخبارية للمجزرة في أندونيسيا حينها، ليفضح تجاهل العالم، ولا يزال، لهذه المأساة الانسانية، فضلا عن الدور الأمريكي في دعم النظام الدموي.