الكتابة فعل جنوني جميل ولعبة نستعيد بها طفولتنا لا توجد دولة في العالم تنتج ثقافة.. فقط تدعمها سكن الليل، الكل نيام، إنها الثانية عشر بعد منتصف الليل، أداجيو في انتظار حبيبها، ها هو قد أتي، وبخفة كاتب معهودة يدير الأسطونة، فتنطلق أوتار إداجيو تتراقص مع برد الشتاء، يبتسم كاتبنا وتهدأ نفسه، الأمر أصبح على ما يرام، لقد حان وقت الكتابة، يمسك أداته السحرية "القلم"، ويلعب تارة يعود بنا إلى الأربعينيات ونقرأ "لا أحد ينام في الأسكندرية" ونعيش أجواء الحرب العالمية الثانية من جديد عبر صفحاته، وتارة أخرى نشاركه شبابه إبان فترة التسعينيات، أنه الكاتب الكبير إبراهيم عبد المجيد، الذي وجد في النسيان ذاكرته، فسرد لنا أمتع الروايات «ليالي العشق والدم، بيت الياسمين، قنديل البحر، ماوراء الكتابة»، وغيرها الكثير من إبداعات الرواية العربية، التقت به «البديل» وكان لنا هذا الحوار. - يلجأ بعض الأدباء للكتابة حتى يتخلصوا من آلامهم، تُرى لماذا يكتب إبراهيم عبد المجيد؟ أكتب لأني مُدان وأريد أن أدفع ما علي، كثيرًا ما تأتيني الحالة أو الفكرة وأتركها لسنوات، فأنا اعتمد على النسيان لا على الذاكرة، معظم رواياتي سردتها بعد 5 أو 10 سنوات من حالتها، مثل رواية «أداجيو» كتبت أولى سطورها في 2002 لكني بكيت، ولم استطيع إتممتها إلا بعد 10 سنوات في 2012، أحيانًا أرى نفسي كاتب مجنون، فالكتابة فعل جنوني لكنه جنون جميل. - كتبت عشرات الأعمال الأدبية، هل تذكر أنك عدت مرة إلى إحدها وقرأتها ثانية لتقف على ما كتبت؟ نعم، حدث معي بالصدفة منذ عدة شهور، إذ وقعت في يدي رواية بيت الياسمين وقرأت جزء منها، حينها غمرتني سعادة بالغة وافتخرت بها، فأنا لم أجد كلمة زائدة أو ليس لها قيمة، أتذكر أني كتبتها حوالي 9 أو 11 مرة، وهو على غير عادة رواياتي التي أكتبها 3 مرات فقط، لكن هذه الرواية كانت مختلفة لأن موضوعها سياسي، وكنت لا أريد أن أجعلها سياسية، فكنت حريص جدًا ألا استخدم لفظ مباشر حتى لا تتحول إلى مقال، وفي النهاية خرجت بشكل ممتع ونجحت وترجمت للغات عدة. - المكان يتجلى في أعمالك، ماذا لو اتسع هذا المكان وصارنا، نتحدث عن مصر، كيف ترها الآن كمكان روائي؟ للأسف مصر حاليًا كمكان طارد مثل السبعينيات، فلا تزال حالة الفوضى هي المسيطرة، كما أن الهوية في حالة ارتباك، فحتى هذه اللحظة هناك من يقول هوية إسلامية بعد كل ما حدث، ولا أعلم هل كنا كفرة من قبل! خلال ال40 سنة الماضية الدولة صنعت هوية كاذبة (إسلامية) انتهت خلال سنة، فالهوية الحقيقة هي التي يصنعها الشعب بنفسه، حين يختلف ويتحاور على صفحات الجرائد، وعلينا أن نعي أن الهوية يصنعها التاريخ لا قرار من دولة، عبد الناصر قال أن القومية العربية هي الهوية، هنا أصبحت قرار ولم تنجح، أيضًا السادات قال أن الهوية إسلامية وفشلت تمامًا، لذا فأنا أؤمن أنه مع الزمن سيصنع الشعب المصري هويته بنفسه بعيدًا عن القرارت الحكومية. فترة السبيعينات تجلت بشكل واضح في إبداعاتك، تُرى هل كل هذا الاهتمام لأنها شهدت فترة شبابك أم لكونها بداية التغيير في مصر؟ الاثنين معًا، في السبعينيات كنت شابًا ودائمًا ما تكون تجارب الشباب عظيمة ومختلفة عن أي سن آخر، كما أنها تظل عالقة في الذاكرة، هذا علاوة على أن السبيعينات كانت بداية التحولات في مصر، لكن للأسف تحولات للخلف، إذ رفع "السادات" شعار الدولة الإسلامية، حينها لم أكن ضد أن يُطلق سراح الإخوان من السجون، لكني ضد أن يمنحهم السادات الأموال ليؤسسوا بها المجلات ويبنوا المعسكرات ليقتلوا الطلبه اليساريين والليبراليين بالجامعات، كل ذلك وهو معتقدًا أنه "ماسك العصايا من النص"، وهذا ليس صحيح بدليل أنه قُتل على أيديهم في النهاية. أيضًا رأيت أن الانفتاح الاقتصادي الذي شهده عصر السادات كان للصوص لا لرجال أعمال يملكون خبرة حقيقة، لدرجة أننا كنا نقرأ كل يوم في الجرائد أن رجل أعمال مصري أخذ قرض من البنك وهرب إلى الخارج، علاوة على عدم وجود رقابة عليهم، فنرى منتجات الكلاب والقطط بالخارج تباع هنا في مصر للمواطنين، واستمر هذا الحال لفترة طويلة، حتى انشلغت الحكومة بالإرهاب في 92، وبدأ يظهر لنا جيل جديد يصرف الناس عن السياسه باسم الدين وأن الأخرة أهم وأبقى من الدنيا، وكل ذلك لتصفية العقل المصري. - كنت أحد أعضاء الحزب الشيوعي إبان السبيعنيات لكنك سئمت العمل السياسي وتركته، هل هناك تعارض أن يكون الروائي سياسيًا؟ - يمكن للروائي أن يكتب في السياسة، لكن لا يلتزم بالعمل السياسي لأنه فيه نظام ودقه واجتماعات، وهذا مرهق جدًا وممل، لأن الكاتب بطبيعته مجنون، كما أن الحديث في السياسة يشحن الكاتب بأفكار سياسية ربما تخرج دون إرادته مباشرة في الكتابة، فتتحول الرواية إلى مقالات أو خواطر، ومعظم الكُتاب العِظام التحقوا بالعمل السياسي لفترة لكنهم لم يتسطيعوا الاستمرار فيه. - بماذا تفسر تراجع المشهد الثقافي اليوم عما كان عليه بعد ثورة 23 يوليو؟ - انتعاش المشهد الثقافي فترة جمال عبد الناصر، يعود لجيل من المثقفين نشأ وتربي أيام الملكية، ك«لويس عوض، أحمد بهاء الدين، ثروت عكاشة»، وأسماء أخرى كثيرة لديهم استنارة واتساع آفق، لكن مع بداية حكم السادات بدأت الأسماء هذه ترحل (تموت)، وأناس أخرى تستبعد ويأتي أخرون لديهم انتماء للأجهزة السياسية، مفتقدين لروح الليبرالية يبحثون فقط عن منافعهم الشخصية، من هنا ضاقت الثقافة، لنوضح أكثر دعونا نستعرض المفارقة، في زمن عبد الناصر انتشرت الثقافة الجماهيرية واقبل الناس على المسارح وكانت تعقد ندوات عظيمة، لزمن كي نعقد ندوة في أي قصر ثقافي لابد من موافقة الآمن أولًا. - عملت لفترة في إدارة الثقافة الجماهيرية في عصر السادت، كيف تعاملت مع المضايقات الأمنية؟ - في بداية السبيعنيات كانت آثار الستينيات لا تزال قائمة، ومن حسن الحظ أن سعد وهبه كان مديرًا للجهاز، وإلى حد كبير استطاعنا العمل وقدمنا شغل جيد جدًا، ومع حلول الثمانينات فضلت الابتعاد والتواجد على استحياء، لكن مع بداية التسعينيات ابتعدت نهائيًا، وأصبحت موظف في الهيئة فقط، طبعًا يرجع ذلك للمضايقات الأمنية من جهة، وإلى تغير حال الناس من جهة إخرى، إذ صارت قصور الثقافة تنعي من بناها، وبيوت الثقافة انتهت، فشعرت أن الجو العام ميئوس منه. أتذكر أخر ندوة أقمتها عام 92 بقصر ثقافة السويس، حينها كان هناك نظام تبادل الزيارات بين أدباء الأقاليم، وكنت عاقدًا أمسية شعرية للشاعر الأسكندري فوزي خضر بقصر ثقافة السويس، لأفاجأ عند ذهابي إلى القصر، أنه محاط بجنود أمن مركزي، فقط لأن بالقصر أمسية شعرية، ومن وقتها فضلت الابتعاد والتواجد شكلًا فقط، وقلت لنفسي إن النضال في هذا السن لا فائدة منه والأفضل التفرغ للكتابة. - ألا ترى أن موقفك هذا يعد استسلامًا صريحًا؟ أنا ابتعدت عن الوظيفة فقط، لكني موجود في المشهد الثقافي بكتب وبقول هذا الكلام في مقالاتي وبدافع عن الثقافة المستنيرة، كما أن حالتي الصحية لا تقوى على التحمل بعد، أيضًا أنا لست مستعدًا لأضيع وقتي في خلافات ومشاكل، أنا أريد الكتابة، المشكلة الحقيقة أن الدولة مركزية، لو أرادت ثقافة ستكون هناك ثقافة، لكن الدولة تريد الثقافة تحت سلطتها، لذا أقول أن أي وزير ثقافة لن يستيطع تقديم أي شئ لأننا دولة مركزية لها تعليمات ونظام، على الوزير أن يلتزم به، لذلك أنا من دعاة إلغاء وزارة الثقافة، وإفساح المجال أمام المجتمع المدني، فلا توجد دولة في العالم تنتج ثقافة، فقط هي تدعمها. - نتيجة لصعوبة النشر عند الشباب، لجأ الكثير منهم للمدونات وغيرها من المواقع الإلكترونية، كيف ترى هذه التجارب؟ المدونات فيها أخطاء فادحة، للأسف الناس غير مدركة أن النحو لم يوضع قبل أن يتكلموا، بل وضعوه بعده، إبان العصر الإسلامي على ضوء الشعر الجاهلي، فجمال اللغة هو من أظهر النحو، فحين يكسر الشاب النحو يجعل الكلام أقل جمالًا، علاوة على ضعف الصياغة لديهم، لا بد أن يعلموا أن الكتابة لعبة، مثلًا لماذا الكاتب يظل طيلة عمره يكتب؟، لأنه كلما تقدم في السن وكتب يشعر أنه طفل صغير يعود إلى الطفولة من خلال لعبة في الكتابة.