الحبش جنس من السودان، والواحد حبشي، وجمعه حبشان، جزيرة العرب معبرهم إلى شمال إفريقيا الشرقية عبر البحر الأحمر، ويقال إنهم من ولد حبش بن كوش ابن حام، وحام هو ابن نوح عليه السلام، هم من أوائل المهاجرين إلى إفريقيا من الجزء الشمالي الغربي لآسيا، ورغم شح المصادر التاريخية من حيث المعلومات المتعلقة بتلك المنطقة، لكن لا خلاف أن سواحل البحر الأحمر الإفريقية وما يقابلها من جزيرة العرب، عرفت اتصالًا وثيقًا، تميز بانتقال أفواج بشرية عديدة في الاتجاهين لدوافع كثيرة ومختلفة. «بين الحبشة والعرب»، عنوان إصدار جديد، أعادت قصور الثقافة طباعته، للباحث الراحل عبد المجيد عابدين، بغلاف للفنان عماد عبد الغني،المؤلف يتناول في كتابه تطور العلاقات منذ أن أسس العرب المهاجرين إلى الحبشة دولة أكسوم، إلى عهد انحلال هذه الدولة، كما يتناول أيضا نهوض الحبشة وازدهارها على يد الأسرة السليمانية، كما يوضح بعض ما استبهم من تلك الصلات التي قامت بين الحبشة والعرب منذ أقدم العصور حتى العصر الحديث. يتضمن الكتاب قسمان، الأول يشمل أربعة أبواب، الأول يتناول علاقة الحبشة ببلاد العرب حتى نهاية القرن الرابع الميلادي، الباب الثاني يوضح علاقة الحبشة ببلاد العرب في القرن السادس الميلادي، الباب الثالث بعنوان بين الحبشة والمسلمين في عهد الرسول (ص)، والباب الرابع يتناول آثار الحبش في بلاد العرب،أما القسم الثاني فيشمل أربعة أبواب تتضمن عناوين: الحبشة والدول الإسلامية، الحبشة والتعصب الديني، انتشار الإسلام في الحبشة، الحبشة والثقافة العربية. أرض الحبشة تقع بالجانب الغربي من بلاد اليمن، في الساحل المقابل لها، وحدودها بين صحاري السودان، والبحر الآخذ من اليمن إلى القلزم، وهي المنطقة التي تدعى حاليا باسم "شمال إفريقيا الشرقية"، وتطل على البحر الأحمر شرقًا، الذي يعد صلة وصلها بالجزيرة العربية، خصوصًا عبر مضيق "باب المندب، ويغلب على تضاريس الحبشة طابع الارتفاع، تعلوها جبال شامخة كثيرة الوعورة صعبة المسالك، وبها نهيرات كثيرة أشهرها النيل الأزرق، مناخها صحي في الجبال وحار مضر في الأقاليم المنحطة، ولا شك أن قرب الساحل الإفريقي الشرقي من جزيرة العرب، وضيق المساحة المائية التي تفصلهما، وموقع بلاد العرب الجغرافي بين خطوط التجارة العالمية قديمًا، ساهم في إنشاء روابط وثيقة بين الجانبين ذات طابع اقتصادي بوجوه متعددة. وتؤكد كتب السيرة أن صلات العرب بالحبشة، صلات قديمة وموغلة في التاريخ. وترجع إلى عهد ما قبل البعثة النبوية بكثير، فبين السواحل الإفريقية المقابلة لجزيرة العرب وبين السواحل العربية اتصال وثيق قديم، وتبادل بين السكان، إذ هاجر العرب الجنوبيون إلى السواحل الإفريقية وكونوا لهم مستوطنات هناك، وهاجر الأفارقة إلى العربية الجنوبية، وحكموها مرارًا، وكان آخر حكم لهم عليها قبل الإسلام بأمد قصير، دون أن ننسى الرأي الذي ينسب أصل الحبشة إلى غرب اليمن، إذ يعتبرهم عربًا جنوبيين، اعتمادًا على الدراسات اللغوية المقارنة والأبحاث التاريخية التي أعطت حججًا مقنعة تؤكد صواب هذا الرأي. كل ما سبق وأكثر، اجتهد في توضيحه الراحل الدكتور عبد المجيد عابدين شيخ علماء السودانيات في مصر في القرن العشرين، الذي ولد في 14 ديسمبر 1915 بمدينة منفلوط، تلقى تعليمه الأولي على يد الشيخ الشهيدي في أحد كتاتيب المدينة، وأبدى الطفل ذكاء ونبوغًا، إذ حفظ معظم أجزاء القرآن الكريم وهو دون العاشرة. وكان ضمن العشرة الأوائل على القطر المصري، مما أهله للالتحاق بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول بالقاهرة، ونال إجازة ليسانس الآداب من الجامعة في 1939، بتفوق ليكون معيدًا في كلية الآداب. واصل عبد المجيد عابدين خطى التفوق والنبوغ، فحصل على دبلوم معهد اللغات الشرقية فرع اللغات السامية 1943، ثم عمل مدرسًا مساعدًا في كلية الآداب جامعة القاهرة، ثم مدرسًا بها، وأصدر أولي مؤلفاته في 1946 ترجمة كتاب الأم للروائي الفرنسي فرانسوا مورياك، بالاشتراك مع عبد المجيد عنبر. وكانت هذه الفترة قد شهدت نشاطًا في الترجمة لديه ولدى الآخرين، في 1947، نشر عابدين كتابه "بين الحبشة والعرب"، وكان هذا الكتاب مفتاح إطلالته على الثقافة الإفريقية عامة، والسودان والحبشة خاصة، وفي 1951، نشر كتابه القيم "الجاني شاعر الجمال"، وفي 1953 نشر سفره الضخم تاريخ الثقافة العربية في السودان، واحد من أهم المؤلفات العربية في تاريخ السودان العربي والإسلامي. في 1955 نال درجة الدكتوراه بتقدير جيد جدًا عن رسالته الأمثال في النثر العربي القديم مع مقارنتها بنظائرها في الآداب السامية الأخرى، وفي 1959 عين أستاذًا مساعدًا بجامعة القاهرة فرع الخرطوم، لتبدأ مسيرة عطاء عمرها سبعة أعوام، لكنها عميقة الأثر في نفوس طلابه وزملائه ومحبيه. تدرج عابدين في سلمه الوظيفي بجامعة القاهرة فرع الخرطوم، حتى عين عميدًا لكلية الآداب فرع الخرطوم، وبعدها عين مديرًا لجامعة أم درمان الإسلامية كأول مصري يتقلد منصبًا سودانيًا بعد استقلال السودان، خرج عابدين آلاف الخريجين من الجامعة الفرع بالخرطوم ومنهم الآن من يتقلد مناصب كبيرة في السودان، وساهم الرجل بعلمه الغزير في إثراء الحياة الثقافية والعلمية في السودان، وهذا ما تجلى من مؤلفاته التي تركها، ومن مؤلفاته السودانية القيمة: "التجاني شاعر الجمال،الشابقيةالحار دلو، البيان والإعراب عما في أرض مصر من الأعراب،الأدب الشعبي في السودان، في الشعر السوداني". هذا فيما عدا العشرات من المقالات المتخصصة في اللهجات السودانية وأصولها والممالك القديمة ونشأتها وتطورها، وغيرها من البحوث والدراسات والمحاضرات التي كتبها وأرسلها إلى العديد من المؤتمرات الدولية التاريخية والثقافية،وكان الباحث السوداني الدكتور يوسف فضل حسن، قد أوكل بجمع تلك المقالات التي تعبر عن حقبة خصبة من حياة الدكتور عبد المجيد عابدين في السودان. ولا يسعنا أن نقدم تاريخ العلاقة ما بين الحبشة والعرب، لكن يمكننا أن نتوقف قليلًا عند كتاب ساهم الدكتور عابدين في ترجمته إلى العربية، وعنوانه "قبائل الشايقية وتاريخها"، لنختتم به، فيه جمع المؤلف الروايات الوطنية التي يرويها الشايقية أنفسهم، وقارن بينها وبين أقوال المؤرخين والرحالة الذين زاروا بلاد الشايقية أو تحدثوا عنها، وقد تقبل بعض هذه الروايات، وشك في بعضها، غير أنه مما يعيب الكتاب – في نظرنا – بعض أقوال جمح بها قلمه ، فأساء فيها الحكم أحيانًا، وأخطأته لباقة العبارة أحيانًا أخرى، لكن تظل هذه الجهود الأساس لدراسة بلاد الحبشة.