منذ قيام ثورة يناير2011 وحتى اللحظة، ومصر تعاني من أزمات طاحنة اقتصادية واجتماعية وسياسية، وهو الأمر الذي يصفه البعض ب "الطبيعي"، خاصة في الفترات التي تلي الثورات، بينما ما زالت الدولة تعاني من مشكلة تؤرقها منذ تسعينيات القرن الماضي، وهي الأزمة السكانية والزيادة المستمرة للمواطنين، فالمتابع للأمر يلاحظ ازدياد عدد السكان 3 ملايين نسمة، ليصل مجموع تعداد السكان إلى 88 مليون نسمة. ووفقًا للتقديرات فمن المرجح أن يتضاعف تعداد السكان إلى 160 مليون نسمة بحلول عام 2050. ومع ما تعانيه مصر من نقص في الطاقة والمياه والقمح، فضلاً عن تضاؤل احتياطيات العملة الأجنبية وارتفاع معدلات البطالة، فإن الوضع يمكن أن يؤثر تأثيرًا كبيرًا في الشعب المصري، وهو ما يتطلب مواجهة من جانب الحكومة بوضع خطط استراتيجية ورؤى واضحة للحد من تلك الأزمة ومنع استفحالها، وذلك لم يحدث من جانب الدولة حتى اللحظة. الأزمة السكانية في مصر.. اختلال بين الموارد والسكان المقصود بالمشكلة السكانية هو عدم التوازن بين عدد السكان والموارد والخدمات المتاحة بالدولة، فإذا زاد عدد السكان ولم يزد معه فرص العمل وزيادة الإنتاج وارتفاع مستوى الاقتصاد، تظهر المشكلة وتصبح الدولة في مواجهة مشكلة سكانية يصعب معها إيجاد الحلول اللازمة لإعادة التوازن بين السكان والموارد مرة أخرى، فيما تتمثل أبعاد تلك الأزمة في شقين، وهما الاختلال بين السكان والموارد الاقتصادية، والتضخم السكاني بالعاصمة؛ مما يجعل مرافقها قاصرة عن سد احتياجات الفرد. ويرى خبراء أن الزيادة السكانية في ذاتها ليست مشكلة إذا كانت الموارد والدخل القومي للفرد يتواءمان مع هذه الزيادة، ولكن ذلك الوضع لا يتوافر في دولة مثل مصر، حيث إنها ظلت لفترة طويلة تعتمد على الزراعة كمصدر رئيسي لدخل الدولة؛ مما أدى إلى انحسار دور الصناعة لعهود طويلة، ولم يتم تدارك ذلك إلا منذ عهد قريب، حيث بدأت مصر تخطو بخطى عملاقة، مستفيدة في ذلك من تجارب النمور الآسيوية والدول الوافدة في جنوب شرق أسيا، مشيرين إلى أن فترة بداية التسعينيات قد شهدت تحولاً مشهوداً في مسار التنمية الاقتصادية بالانفتاح الصناعي على العالم الشرقي والغربي في آن واحد لمواجهة الزيادة المستمرة للنمو السكاني. تعامل الدولة مع الأزمة السكانية في العقدين الماضيين نجحت الدولة في الحد من الزيادة السكانية نسبيًّا خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، حيث نشطت حملات التوعية لتحديد النسل والتحذير من عواقب زيادة التعداد، وقد لاقى ذلك قبولاً من الشعب المصري. وأفادت تقارير دولية أنذاك أن مصر كان لها مستوى أداء جيد خلال تلك الفترة، ولكن منذ عام 1994 وأصبحت الدولة بلا مخطط واضح أو رؤية استراتيجية محددة للتعامل مع الأزمة؛ مما ساهم في عودتها للظهور على ساحة المشاكل التي تهاجم المجتمع وأفراده، وأصبحت وحشاً نهماً يلتهم كافة الموارد ويقتل أية محاولات للتنمية والتقدم الاقتصادي والاجتماعي للدولة والمواطن. الزيادة السكانية.. الدولة تتجه إلى المجهول يرى العديد من الخبراء أن الدولة مقبلة على كارثة محققة في حال عدم التعامل الجاد من جانب الحكومة مع الأزمة السكانية، فالقضية تكمن فى أهمية وجود اتزان بين عدد السكان ومساحة المكان، وقد بدأ الخلل يصيب هذا الاتزان فى منتصف القرن العشرين، حيث بلغ أقصاه حين كان عدد السكان 20 مليون نسمة ومساحة المكان 6 ملايين فدان، ثم تزايد هذا الخلل بصورة متصاعدة إلى أن بلغ الآن درجة الخطورة القصوى نتيجة الزيادة السكانية الكبيرة دون أن يقابلها اتساع فى الحيز المكانى، بل على العكس تقلصت مساحة الحيز فى الوادى والدلتا بنسبة 30%؛ نتيجة الامتداد العمرانى للمدن والقرى على الأراضى الزراعية. أما الآن فقد وصل تعدادنا إلى 88 مليون نسمة، أى ما يقرب من خمسة أضعاف عدد السكان عن منتصف القرن الماضى، فى حين أن مساحة الأرض قلت بما يقرب من الثلث، فحوالى 35% من الأراضى الزراعية اختفت حسب التصوير الجوى، هذه الخطورة تزايدت مع الوقت نتيجة أن المكان لم يعد قادراً على استيعاب الزيادات السكانية منذ أمد ليس بالقصير، أى أنه يتحمل وزنًا سكانيًّا وأنشطة حياتية فوق قدراته بدرجة كبيرة، وبذلك أصابه خلل شديد يتمثل فى الكثافة السكانية العالية وتلوث البيئة والبطالة والفقر والعشوائية وغير ذلك من مظاهر التلف أو الخلل الاقتصادى والاجتماعى والعمرانى. فالكيان المصرى بأكمله قائم على أساسات محددة، ثم أضفنا أدوارًا فوق هذا الكيان فاستنفد قدراته، وأصبحت إضافة أى أدوار جديدة تمثل خطورة على هذا البنيان، فبدت الشروخ واضحة للمتخصصين، وعلاجها ليس بطمسها بالجبس وأن نتخيل أنها غير موجودة، وإنما لا بد من إزالة الأدوار الزائدة ونقلها بعيداً؛ لنخفف الحمل على الأساس، فإذا كان السكان يشغلون ما يقرب من 6% من مساحة مصر، فمن الممكن أن نصل بهذه المساحة لأربعة أضعاف الحيز الحالى لتبلغ 24% من أرض مصر القادرة على التعمير بدون أى مشاكل، بل ولديها إمكانات لزراعة الصحراء وإقامة صناعات بمختلف أنواعها وكذلك كافة الأنشطة الحياتية، وسوف تكون مساحات جاذبة للسكان طالما وفرنا فيها مصادر للرزق ولقمة العيش وحياة كريمة. الحكومة والأزمة السكانية.. فشل جديد يضاف لرصيدها لم تستطع الحكومات المتعاقبة إيجاد حلول لمجابهة أزمة الانفجار السكاني التي تعانيها مصر منذ فترة، فالمشكلة في تزايد مستمر ولم يتم التوصل لحلول نتيجة عدم وضع خطط استراتيجية ورؤى محددة للتعامل مع الأمر. ووفقاً لتصريحات الدكتور عاطف الشيتاني، رئيس المجلس القومي للسكان، فإن تعداد السكان داخل مصر وصل إلى 88 مليون نسمة، بنسبة تصل إلى 2.6 مليون مولود جديد سنويًّا، وإن الحكومة رصدت مبلغ 410 مليون جنيه لتنفيذ خطة مواجهة الأزمة السكانية، وإن نقص التمويل يقف حائلاً حتى الآن أمام تنفيذ هذه الخطة، وهو ما يعد خير دليل على معرفة الحكومة لفشلها السابق في التعامل مع الأزمة والبدء في التخطيط الفعلي والحقيقي لمواجهتها. ويقول الخبير الاقتصادي هيثم غنيم إن مصر تعتبر من أكثر الدول معاناة من آثار المشكلة السكانية بأبعادها الثلاثة: النمو السكاني المتزايد، وسوء التوزيع السكاني، وتدني مستوى الخصائص السكانية، وإن الحكومات المصرية والأنظمة السياسية المصرية المتعاقبة قد وقعت في إشكال يتمثل في معالجة المشكلة السكانية من المنظور الطبي فقط، بالعمل على تقليل عدد المواليد دون الاهتمام الكافي ببعدي سوء التوزيع السكاني وتدني الخصائص السكانية، وقد انصب هذا المنظور الطبي على دعوات تحديد النسل وتنظيم الأسرة، يضاف إلى ذلك أن البعض ينظر أيضًا إلى المشكلة السكانية على أنها الزيادة السكانية، وهذا غير صحيح، فالزيادة السكانية هي أحد أبعاد المشكلة السكانية وليست المشكلة ذاتها. ويضيف غنيم أن المشكلة الحقيقية تكمن في قصر نظر الحكومة وعدم الاهتمام برأي المختصين كما هي العادة بالنسبة للمسئولين المصريين، وهو ما يتسبب في سوء الوضع وعدم التوصل إلى حلول جذرية، مشيراً إلى أن عدة دول عانت من تلك الأزمة، ولكنها استطاعت توظيف الزيادة في الوصول إلى المعادلة الصحيحة لتنمية الدولة ومنها البرازيل، مطالباً بضرورة دراسة ما يتناسب مع المجتمع المصري وليس الأخذ بخطوات تلك الدول؛ لأن كل دولة تختلف أوضاعها عن الأخرى. التعليم والتوعية وتنمية القوى العاملة مثلث إنهاء الأزمة السكانية يؤكد خبراء أنه في إطار مواجهة الأزمة السكانية ولإيجاد حل جذري لها يتحتم على الحكومة أن تتعامل مع أبعاد المشكلة الثلاثة من نمو سكاني وسوء توزيع وتدني مستوى الخصائص السكانية بدرجة متساوية، لا يقل فيها الاهتمام ببعد على حساب آخر، كما أن هناك أهمية لتحقيق التنمية الريفية في المجتمع الريفي في مصر الذي يصل سكانه إلى 55 في المائة من سكان مصر، وإعطاء الأولوية المطلقة لتنفيذ برامج التنمية لمحافظات صعيد مصر؛ اعتمادًا على تقارير التنمية البشرية المختلفة التي تبين تدني مستوى عملية التنمية فيه، أيضًا لا بد من التعامل مع العشوائيات بطرق أفضل مما هو موجود حاليًّا، كونها أكثر المناطق ازدحامًا بالسكان وأكثر المناطق التي تشهد نموًّا سكانيًّا، فهناك ارتباط قوي بين انخفاض المستوى الاقتصادي والاجتماعي وبين ارتفاع معدلات النمو السكاني، كما يقدر عدد من يقطنها بنحو 12 مليون نسمة، وبالتالي تحتاج إلى عملية تطوير حتى يتم تقليل المواليد ورفع الخصائص السكانية، وهو ما يؤدي إلى الخلخلة السكانية في هذه المناطق؛ مما يقلل من مستوى الكثافة. ويشير الدكتور غنيم إلى أن الحل الوحيد للأمة هو تعمير الحيز المهجور والمناطق القابلة للتنمية والتعمير خارج الوادى والدلتا؛ لاستيعاب هذه الزيادة السكانية الكبيرة، مثل سيناء وإقليم قناة السويس وإقليم الساحل الشمالى الغربى بعمق 180كم، ثم تعمير الوادى الجديد وإقليم البحر الأحمروجنوب مصر، مشيراً إلى وجود التمويل والمستثمر، لكن المطلوب حقيقة هو الإرادة السياسية التى تنظر لمصر ليس فى حاضرها فقط ولكن فى مستقبلها، والدليل على ذلك أنه فى العديد من الانتخابات السابقة لم تذكر كلمة واحدة فى برامج المرشحين عن هذا الأمر رغم خطورته. ويوضح أن الزيادة السكانية سوف تقل معدلاتها مع زيادة نسبة التعليم وفرص العمل والتوعية وارتفاع مستوى جودة الحياة، وجعل معدل المواليد يساوى معدل الوفيات، كما أنه لابد مع نمو السكان أن تنمو القوى العاملة، فعندما يزداد عدد السكان يزداد الطلب على السلع الأساسية، ولكى نتجنب تدهور الوضع الاقتصادى لابد من زيادة الإنتاج، ومن هنا يتضح أن المشكلة ليست فى الزيادة السكانية لكن فى أنها لا يقابلها زيادة فى حجم العمالة والتوظيف وفرص العمل، وبالتالى لن تحدث زيادة فى الإنتاج، وبطبيعة الحال ينخفض الناتج المحلى الإجمالى. ويؤكد الخبير الاقتصادي أن العلاج يتمثل أيضاً في بحث الحكومة عن كيفية رفع الإنتاج وطرح مزيد من فرص العمل، وذلك من خلال تحفيز الاستثمارات المحلية، خاصة فى القطاعات التى تتمتع فيها مصر بقدرة تنافسية مثل الصناعة الكيماوية والغزل والنسيج والصناعات الغذائية، مع الاستعانة بالاستثمار الأجنبي، ورفع الكفاءة الإدارية، سواء فى القطاع العام أو الحكومى أو الخاص.