موقع إليكتروني ينشر مواد دينية .. يحصد آلاف اللايكات والإعجابات .. بما يدل على مرجعية جمهوره الدينية ذات مرة .. ينشر الموقع مادة مختلفة .. مثلا صور من مجريات حياتنا المعاصرة: صورة باحث علماني أو رئيس دولة أجنبية أو حتى عربية .. أو صورة فتاة خلعت الحجاب .. أو صورة ناشر صور مسيئة للمقدسات .. في هذه الحالات تجد طوفانا من تعليقات وممارسات السباب والقذف والنفور والكراهية وصب اللعنات .. حيث تواتر كلمة "خنزير" بشكل لافت .. ربما تكمن المشكلة هنا في نمط المرجعية ودرجة قدسيتها المقدسة لدى زوار الموقع .. فربما كنا جميعا نمتلك مرجعيات مقدسة بشكل أو بأخر .. لكننا نختلف في درجة تقمصنا وتقديسنا لهذه المرجعيات: فهناك من يرفض المس بمقدساته إلا بصور التبجيل فقط .. دون أي نقد.. وهناك من تعلم أن يسمح بالنقد والتساؤل.. لكنه يحظر السب .. وهناك من تعلم نسب السب لجهل من يمارسه دون أن يعتبر السب قادرا على مس الموضوع المقدس .. بشكل عام .. فالمرجعية المقدسة في درجاتها المتطرفة هي مرجعية مفارقة ومتعالية عن العالم الدنيوي المعتاد .. حيث يتبنى صاحبها منظور مثنوي يضاد بين الذات والأخر .. وبين العالم المقدس ودنيا المدنس .. هنا تعلو المرجعية المقدسة وتتسامى عن مخالطة العالم فتجعله يتضاءل تماماً أمامها .. بحيث إذا شعر صاحب المرجعية للحظة بوجود تعارض بين العالم وبين تصوراته المقدسة .. فعندها يتحول العالم كله عنده إلى مدنس وبالتالي يصبح عائق في مقابل عالم المقدس الطاهر لديه .. هذه الوضعية من المقابلة والمعارضة "المثنوية الصفرية" بين المدنس والمقدس تتبلور في ذهن صاحب المرجعية المقدسة .. بشكل لاواعي فتجعله ينتفض للدفاع عن ما يعتبره مقدسا إزاء هجوم المدنس عليه .. رد الفعل هذا ليس عقلانيا .. لأنه ينبع من أعماق كامنة في النفس البشرية لدى صاحب المرجعية المقدسة .. وربما هي تلك التي يصفها أتباع "فرويد" بأنها تمثل إلزامات "الأنا الأعلى" التي لا يمكن لصاحبها مناقشتها وإلا أنزلت به عقاباً أبوياً صارماً قد يتجلى في شكل إقدامه على الانتحار .. حين يشعر بحدوث إهدار تام للقيم المقدسة التي انبنى عليها كيانه النفساني جميعه .. لذا نكاد نقول أن صاحب المرجعية المقدسة في هكذا وضعية قد يصبح في حالة أشبه بما يسميه القانون الدنيوي: حالة الجنون اللحظي المؤقت .. بحيث يفارق طبيعته الاجتماعية المعتادة .. ويدخل في حالة مؤقتة ولحظية من النفور والكراهية "الأخلاقية" والقيمية التي تجعله لا يقيم وزنا للحياة الدنيا .. مدفوعا بغريزة الانتقام التدميري المميت - "الثاناتوس" كما أسماها فرويد .. المشكلة هنا أننا قد نصادف "درجات" مختلفة من رد الفعل المستحث بغريزة الإنتقام المميت هذه .. بحيث تتراوح من درجة مجرد ممارسة السب وإعلان الكراهية المماثل لتقمص فوبيا نفسية إزاء موضوع النفور .. وصولا إلى درجة قتل الذات وقتل الآخر .. وهو ربما ما يتماثل مع تدرج درجات "تغيير المنكر" المعهودة في التقاليد الإسلامية: من التغيير باليد، إلى التغيير باللسان، إلى التغيير بالقلب .. فهذا تدرج كاشف لقدرات النفس البشرية وفق درجات إرتباطها بالمرجعية المقدسة، ووفق درجات تقمصها لإلزامات الأنا الأعلى التي تحدد طبقات ودرجات رد الفعل وفقا لكل موقف .. ربما يمكننا أن ننتقل وفق هذا التحليل السابق إلى مجال أشد خطورة في فهم الظاهرة .. وهو مجال ردود الفعل الإسلامية على الرسوم المسيئة للمقدسات – ولا نقول الرسوم المسيئة لشخص النبي .. لأن مجرد "تشخيص" النبي بالرسم يعتبر إساءة لدى غالبية المسلمين .. أفرادا ومؤسسات … فلننظر مثلا في الحوار الأخير الذي أدلى به المسلم الفرنسي "كواشي" – بعد قيامه بقتل رسامي كاريكاتير مجلة "شارلي إيبدو" الفرنسية لنشرهم رسوم مسيئة للمقدسات الإسلامية .. فقد رفض "كواشي" وصف نفسه بإنه "قاتل" .. وبرر قتله للصحافيين الفرنسيين بأن "الغرب" هو القاتل الحقيقي .. لأنه يرسل جنوده لقتل المسلمين الأمنين في بلدانهم .. استخدم "كواشي" بالتحديد مصطلح "الانتقام" بديلا عن مصطلح "القتل" .. لتبرير ما فعله برسامي الكاريكاتير .. فقد اعتبر "كواشي" نفسه يمارس "الانتقام" للمقدسات التي تم انتهاكها .. و"المنتقم" هنا يعتبر نفسه مفارق لإلزامات العالم الدنيوي المدنس .. وفي حل من قوانينه .. فهو ينتمي لعالم آخر بديل .. وبالتالي لا تنطبق عليه القوانين "الدنيوية" من اعتبار "القتل" قتلا – في حالة "كواشي" .. ولا اعتبار السب والشتم ممارسة مزدولة – كما في حالة المعلقين على الصور المسيئة للمقدسات .. فعندما يشعر صاحب المرجعية المقدسة بحدوث تعارض بين العالم الدنيوي وبين عالم المقدس لديه .. فإن عالم الدنيا بقوانينه يتضاءل ويختفي تماما لأنه مدنس .. وعالم الدنيا يصبح مدنساً بمجرد اختفاء المقدس .. واختفاء المقدس يستدعي بالضرورة إزالة المدنس ليظهر المقدس عوضا عنه .. هنا لا يرى صاحب المرجعية المقدسة إلا مهمة واحدة بانتظاره .. وهي: إهلاك المدنس لإعلاء المقدس .. كل هذا ينبع من اعتبار العالم الدنيوي عالما مدنسا قذرا يتطلب التغيير الجذري .. وأن ممارسة هذا التغيير ينبغي ألا تقيم وزنا لما تعارف عليه هذا العالم الدنيوي المدنس من قوانين "مدنية حديثة" تجرم القتل وترفض السب .. فهذه مجرد ممارسات هادمة للدنيا المدنسة .. وبالتالي ينبغي ضمها واعتمادها ضمن منظومة بديلة تؤسس لإنبلاج المقدس وحده .. فتكون الأخيرة وحدها هي الحائزة للسيادة والشرعية المطلقة فوق غيرها من القوانين الدنيوية .. هنا .. يصبح العالم الدنيوي مجرد عائق ينبغي تجاوزه وتحطيمه للوصول إلى إرساء قيم عالم المقدس .. حتى ولو كره المخالفون .. فنحن هنا في إطار مرحلة تقويض وتدمير ضرورية للمدنس الموجود قبل إرساء المقدس المأمول .. بل إن إرساء المقدس المأمول هو قائم بالضرورة بمجرد تدمير المدنس الموجود .. لأن سمة المقدس هي ضرورة الإنبلاج الذاتي بمجرد تدمير المدنس الموجود .. كما ينسلخ الحي من الميت .. نحن هنا أمام نظرة "أناواحدية" تدمج "المثنوية الصفرية" بالحتمية الميكانيكية بطريقة فريدة .. وهو نمط إيماني ظهر وتجلى في كثير من مراحل التاريخ .. بحيث لا ينبغي استغرابه .. هناك إحساس بقرب تحقق وانتصار عالم المقدسات على عالم المدنسات .. فالنصر بات قريبا جدا .. ولا ينبغي تأجيله أو التقاعس عن مناصرته .. وهنا يتداخل المقدس في المدنس بغرض احتلاله .. ربما ينشأ هذا عن طريقة محددة في التربية والتنشئة تقوم على تثبيت نمط متطرف من "الأنا الأعلى" .. تسمح لها بتصور قدرتها على تذويب الأخر وتدميره من خلال مرحلة إعتلائه أخلاقيا وقيميا ..فهكذا تعمل "المثنوية الصفرية". ربما تم إلزام الطفل بتقمص دور وموقع الأب المؤتمن والحامي الذي تطرف في ممارسة السباب والعقاب كوسائل وحيدة للتعاطي مع المواقف التي تستدعي القيم والأخلاق لفهم العالم الدنيوي كمدنس عابر ينبغي تجاوزه نحو عالم مقدس لا يمكن قياسه أو تصوره بأبعاد العالم الدنيوي .. بل ينبغي فقط الإيمان بوجوده وبإمكانية الوصول إليه دون أدنى تشكك ..