الانسان في الفكر العلماني تحول من كيان خاضع للنسبية والتغيير والتطور والتاريخية والجزئية إلى كيان إلهي مطلق يضع المبادئ الأخلاقية والقيمية والتصورية العليا بصورة قطعية لا راد ولا رقيب لها وتحول مع هذا إلى مقدس أخر يحاكم من خلاله الدين والتاريخ وكل مسار تطور البشرية بمجتمعاتها وعاداتها وثقافاتها.. إلخ. ولم تقف مقدسات ومطلقات العلمانية عند هذين المفهومين للإنسانية والعقل بل أضيفت إليها على مر الثلاثة قرون الأخيرة مقدسات أخرى منها الدولة والقانون الوضعي والشكل الجمهوري للحكم والقومية والطبقة وشكل الإنتاج الرأسمالي في مراحله ومذاهب سياسية وفكرية من النفعية والليبرالية إلى الحداثة وما بعد الحداثة ثم العولمة مع منظومة الأفكار اللاحقة بها والمواكبة لها. ولعل أكبر وأخطر مقدس ومطلق للعلمانية هو العلمانية نفسها التي تحولت لتصبح مقدسا مطلقا يماثل الدين فلا يجوز مجرد طرح التساؤلات حوله أو الدعوة إلى تعديله كما لا يجوز مناقشة ومراجعة موقفها العدائي من الدين وجعلها الأديان كلها متماثلة رغم الفارق الفرعي والجوهري مثلا بين الإسلام والمسيحية التاريخية وفي تطورها الشرقي والغربي. إن العلمانية التي كانت ولازالت تقيم دعواها الأساسية كما رأينا على الشكوى من المقدس والمطلق الديني ومن تدخله لقسر الحياة البشرية المتجددة المتغيرة على قالبه الجامد تفرض هي ذاتها كمبدأ مقدس مطلق على الناس لا يسمح بمبدأ أخر غيره. ولا يتجلى هذا التناقض في مجال أكثر مما يتجلى مثلا في العديد من القوانين التي تسن هنا وهناك وتحت مسميات متعددة لتبيح من ناحية كل الحريات بأنواعها ودرجاتها لأصحاب الفكر والتوجهات العلمانية وتضيق وتحظر وتحرم نفس الحريات على أصحاب الدين (الإسلام) بحجة أساسية هي أن الدين ينطوي على المطلق والمقدس وأن الحرية لا يجب أن تعطى لأعداء الحرية الذين هم أصحاب الدين. وهكذا تتجلى الضجة العلمانية الكبرى حول الفصل بين المقدس والدنيوي والمطلق والنسبي مع إعلاء النسبي عن وضع يتم فيه إحلال مقدس ومطلق علماني محل المقدس والمطلق الديني. وهذا هو ما تدل عليه كل ممارسات الواقع القريب والحالي على استعداء العالم الإسلامي وعلى كل المستويات. ففي الوقت الذي تسقط فيه صفة الثبات عن تعاليم الشريعة الإسلامية في مجال الأسرة مثلا وتنزع عنها حرمتها وتصبح عرضة للنسخ والتبديل الدائمين في كل تفصيلات هذا المجال نجد أن القوانين الوضعية التي تحل محلها لتحرم تعدد الزوجات أو حق الرجل في الطلاق والقوامة على الأسرة وحضانة الأطفال .. إلخ تفرض لتكون قوانين أزلية أبدية لا يجوز عليها أدنى تعديل حتى لو ثبت أنها أدت إلى أضرار ومشاكل لا تعد ولا تحصى. يحدث هذا بينما مبادئ الشريعة الإسلامية تتعرض للإلغاء والتعديل تحت حجة أنها لابد أن تستجيب لتغييرات الحياة ومتطلبات العصر لا أن تقود هي وتوجه وتحكم هذه المتغيرات. أما القوانين العلمانية الوضعية والتي قد يفترض بداهة أنها بنيت على النسبي والتغير وعلى المرونة وعلى أساس التغير لملاحقة المتغيرات وحل المشكلات المستجدة فهي تفرض كمبادئ مطلقة مقدسة لا يجب أن تتغير حتى وهي تولد أفظع المشكلات الاجتماعية وتوقع الناس في الحرج والعنت. وليس هذا إلا نموذج واحد لتلك المغالطة العلمانية الكبرى التي تلغي المقدس الديني بحجة إفساح الطريق للنسبي والاجتماعي والدنيوي المرن المستجيب للناس فإذا بها تفرض مقدسات ومطلقات خاصة بها يرد بشكل أقسى جمودا وطغيانا مما فعله الناس بأي مقدس ديني. [email protected]