تحدثنا فى المقال السابق عن نزوع تاريخى لدى المجتمعات المعاصرة إلى تدنيس المقدس، أى نفى المعانى السامية والمتجاوزة الكامنة فى الدين وتحويله إلى طقس عادى، يخضع للقواعد الدنيوية نفسها. واليوم نتحدث عن نزعة مضادة لتقديس الدنيوى، من خلال بث نوع من السحر، وقدر من القداسة فى بعض النشاطات الدنيوية، ولكنها قداسة من أفق إنسانى، غايتها ليس السعى إلى عبادة كائن اسمى، بل تلبية لحاجة الكائن الأدنى (الإنسان) إلى مصدر للطاقة النفسية قادر على حفز حركة الأفراد منفردين، وعلى لصقهم فى مجتمع مشترك انسحب منه الله، وضمر فيه الإيمان التقليدى. مصدر تستطيع المجتمعات المختلفة أن تنهل منه الشعور بوجودها الخاص، وأن تعيد تشكيل المبادئ الملهمة والقواعد المحفزة لتضامنها المشترك، ولكن على أساس طوعى حر بعيدا عن هيمنة المؤسسات الدينية، خصوصا الكنيسة الكاثوليكية التى ارتبطت بأقصى درجات التسلط الدينى فى التجربة الغربية، والتى تسعى الجماعات المتأسلمة إلى احتلال موقعها فى المجتمعات الإسلامية المعاصرة، بنزوعها الوصائي المتنامي، وتسلطها السياسي القاهر والعنيف. قد يكون هذا المصدر مفهوما فلسفيا مؤسسا كالتنوير أو كالحرية، تضعه المجتمعات الأكثر حداثة، موضع التقديس، فوق كل شيء آخر حتى الدين نفسه كما هو الأمر لدى المجتمعات الغربية المعاصرة. فباسم التنوير جرى إخضاع النص الدينى لسلطان العقل وتأويلاته وهو موقف تاريخى إيجابى، وباسم الحرية جرت ولا تزال تجرى الممارسات الإلحادية، ويعلن القول المنكر للألوهية وهو موقف إشكالى. فلولا أن هذه المجتمعات قد وضعت حرية التفكير والتعبير موضع التقديس، ما أمكن لأفرادها التعبير عن إلحادهم، وإلا كان التنكيل بهم كما كان الأمر قبل استقرار هذه المفاهيم منذ قرنين أو ثلاثة تقريبا. وقد يكون هذا المصدر مفهوما سياسيا كالوطنية والقومية والأمة، تبجله المجتمعات، ولهذا تبجل مفكريها وفنانيها الكبار الذين يرسمون لها معالم (شخصيتها القومية)، ويصوغون السرديات الطويلة عن (تاريخها الحضارى)، أو ينشدون الملاحم التى تحكى عن (أمجادها القديمة)، بحيث تتحول مثل هذه المفاهيم السياسية إلى ما يشبه المعتقدات، فتصير أعلام الدول بمثابة منارات، وكأنها مآذن حديثة، ترتفع فوق كل الشرفات وعلى كل المؤسسات الوطنية، وليس على المعابد والكنائس والمساجد كساحات دينية. كما تصبح الأناشيد الوطنية وموسيقاها المصاحبة مثل الترانيم الكنسية، والتراتيل القرآنية، تشنف الآذان وتثير الخشوع فى جموع المواطنين، وكأنهم أمة من المؤمنين. أما من يتجرأ بالخروج على تلك المعالم والطقوس والترانيم، فتلاحقه تهمة الخيانة، باعتبارها مروقا من الوطنية، والتى صارت تفوق الإتهام بالإلحاد، باعتباره خروجا على الإيمان. وهكذا يعود الدين ليؤكد مركزيته التى لا يمكن لأى مجتمع أن يتخطاها بشكل أو آخر، فإذا مات دين تقليدى نشأ دين حديث بديلا عنه، وإن لم يكن هناك دين وحى/ سماوى كان هناك دين طبيعى/ إنسانى، أو حتى دين وثنى/ تعددى. وإن لم يكن هناك دين متجاوز/ متسامى/ غيبى، كان هناك دين دنيوى/ إنسانى/ عقلى، معادل له، يلعب نفس دوره، ويقوم بذات وظائفه. فى هذا السياق تزدهر طقوس دنيوية محدثة، قادرة على إشاعة النشوة النفسية لدى الجمهور الذى يتلقاها أو يشارك فيها، وكأنها عبادات يومية تجمع بين المؤمنين المحدثين، على منوال الطقوس الرياضية، خصوصا مباريات كرة القدم. حيث يحتشد بشر كثر فى مكان واحد، ينتظرون ساعات طويلة لمشاهدة لاعبين يتنافسون معا بإصرار غالبا وبعنف أحيانا، توقا إلى التفوق دائما، فتتعالى الأصوات بالمديح والهجاء، وتلتهب الأيدى بالتصفيق من قبل شخص أنفق ماله ووقته فقط لمجرد الشعور بنشوة انتصار، أو حتى نشوة المشاركة فى الطقس نفسه الذى يمارسه الآخرون، وكأنها رحلة حج حديثة بديلة عن ذلك الطقس التقليدى المعروف فى شتى الأديان، يقوم به أناس فقدوا القدرة على الشعور بنشوة المقدس، إنكارا أو إهمالا أو نسيانا، داخل عالم يتسارع إيقاعه وتنمو ماديته، ولكنهم لم يفقدوا الحاجة قط إلى التلاحم والتفاعل معا، وإلى خلق معان قريبة (إنسانية) لحياتهم بديلا عن المعنى النهائى (الإلهى) لتلك الحياة، وتزدهر أيضا الطقوس السياسية، وعلى رأسها الحركات الثورية، فالحماس الثوري هو مشاعر دينية فى الصميم، لكنها أخذت طابعا دنيويا، إذ بدلا من انتظار المؤمنين الأبرار (الخجول) للحياة الفاضلة فى الجنة أو ملكوت السماء، يسعى الثوار الأحرار إلى تجسيد تلك الحياة الفاضلة الآن، وعلى هذه الأرض. كما أنهم يستعيرون رغبتهم فى التضحية على مذبح الأوطان من روحانية الجهاد فى مواجهة الأعداء والكفار. وتزدهر كذلك الطقوس الفنية: المهرجانات السينمائية، معارض الفن التشكيلى، المسارح الكبرى، خصوصا الرقص، كطقس نفس جسدى، سرعان ما يشعر القائم به بنوع من الذوبان يزول معه الحاجز بين كيانه المادى/ الجسدى، وبين كيانه الروحى/ النفسي، حيث يتبادل الكيانان التأثير، ويدفع كل منهما الثانى إلى حالة انتشاء أعلى. إن الأمر هنا يكون أقرب إلى الرياضة الروحية، التى نبعت منها فكرة اليوجا، التى تقود إلى حالة النيرفانا البوذية، حيث تحدث حالة الاستنارة عندما تسيطرالروح على الجسد، ويفنى الإنسان فى روحية الكون الكبرى. غير أن الرقص كطقس فنى لا يهدف، على عكس التنسك البوذى، إلى فناء الجسد، بل إلى تناغمه مع الروح، ليكتسب خفتها ورشاقتها، كما تكتسب هى، أى الروح، حضوره وفعاليته. إنها النشوة التى يصنعها اتفاق الأضداد وتعادلهما، عندما تكشف الأشياء المنفصلة والمتناقضة عن وحدة غير متوقعة. إنها الوحدة التى كانت تتحقق فى الدين عبر اللقاء بين الإلهى والإنسانى، المقدس والمدنس، وصارت تتحقق، فى المجتمعات المعلمنة عبر اللقاء بين المدنس المدنس، والإنسانى بالإنسانى، كأنها لهب من نار يشتعل بفعل احتكاك حجرين باردين. لمزيد من مقالات صلاح سالم