كالعادة يقتحمنا عاطف عبد الرحمن ببطولة البسطاء (ومنذ أيام الإمام) ، ودائماً يُجسد البطولة في المرأة .. ربما لأنه يري بل يؤكد أنها الأكثر قدرة علي القيام من كبوات قاصمة قاهرة (بدَت في أبيات التقديم والمُعنونة "إليكِ" والكسرة من عندي استنتاجاً) .. وأيضا يري أن إبرازها لعواطفها هو فعل ثوري تتخطي به أنماط القهر والاحباط ، فقط لكونها أنثي .. وهذا مايجعلها متطابقة دائما مع مايعانيه الوطن من هموم ممتدة .. لذلك فهي "بهية" في معظم الأعمال الخالدة . والغريب هنا أن ما يدينها به الوعي الجمعي، هو نفسه ما يهلل له نفس الوعي إبداعاً (نلاحظ تجربة نساء الاخوان مؤخرا .. ) . نحن في معية كاتب كبير ، يسمو بما يراه الوعي دنساً (لغرض الهيمنة الذكورية) ، يسمو بشخوص متطهرة دوماً (بالتصالح مع نفسها ، بالحلم تعويضاً أو بظهور شخصية كامنة في الوعي البسيط مثل "عمي عبد الحميد" في النص .. معاناة الولادة منفردة ، واستحضار المتوفي صلاح) وكأنه يواصل نزعة محفوظية تأصلت في وعينا المعاصر (الغانية عطية في قصر الشوق ، وغانية زقاق المدق مثلا ..) وقصة قصيرة لجوركي "استخرجت فيها نبيلة سابقة تصريحاً لممارسة البغاء (عقب الثورة البولشفية) لتحصل علي مبلغ تستكمل به تعليم ولدها الوحيد اليتيم تعليما راقياً لمدة ثلاث سنوات .. بعدها ألغتْ التصريح وقد تخرّج ولدها وسط دهشة الجاويش مسئول التصاريح وأعضاء المكتب" .. وهي طرق يعرض لنا فيها المقدس والمدنس بما يمثله من حيرة بامتداد حياة البشر .. وله خصوصية لدينا ، ويبدو أن هذا هو العقبة الكؤود في مواجهة محاولات الظلاميين .. يبادئنا عاطف بأبيات "إليكِ" ليؤكد لنا رؤيته أن المرأة هي أصل الحياة بالمعني العميق ، وكما لو كان لديه تفاصيل وتصورات أخري تؤكد أن البدايات دائما من عندها .. وعززها بأبيات محمد سيف التي وظفها باقتدار في نفس السياق . الفصول قصيرة سريعة الايقاع (لا ملل عنده) محملة بكثافة الحدث ، وكأنه يعوض ملكاته المسرحية .. فيسهُل مسرحتها .. يرسم لنا عالم الثوار ببساطة وألم .. يلهث فيه الزمن ليحقق لقاءً (توقأً) يحمل ما هو أعلي من مجرد الجنس .. كرمز للتحرر والخروج من دوائر القهر .. ويبدو خلالها الفساد (حكوميا وأهلياً) محيطاُ بالمهمشين ، وتطل من خلال الأحداث ثقافة هؤلاء المهمشين وسعيهم لنيل حقوقهم في الوطن .. التفاصيل الذكية تثير الإعجاب جنبا إلي جنب مع الحكيْ .. وتدعو القارئ لتصديقها بسلاسة حتي لو بدت فيها مبالغات (مثل شخصية عمي عبد الحميد، ونفس الشرطي يغتصب زينب ثم يقتل يوسف) تبدو أسطورية، لكن من مننا يرفض الاسطورة.. ؟ .. يداعبنا عاطف بعناوينه ذات الدلالات العميقة، وتطغي خلالها زينب علي مايطرحه من أحداث ، فهي الراصدة الدهِشة كمرآة للأحداث (صورة) وهي رجع الصدي ليوسف الذي تطارده رائحتها (ونلحظ أن الفواصل والعناوين تبدو كصور .. مقلوبة) . يطوي السارد العليم الزمن عن طريق سنوات عُمْر الابنة قَمَر (الطفلة ابنة زينب) .. ويوسف الحبيب مهموم بالحالة الثورية وحقوق العمال أكثر من ميله المباشر للجنس وهو في سن الشباب الجامح .. تجد زينب في يوسف ملاذاً لها ولابنتها بعد سنوات من الهوان .. تقودها غريزة الأنثي التي لا تخيب .. وشوقها ثم شبقها نحوه هو فعلها الثوري علي ظلم وإذلال عانت منه طويلا ومنذ أن وعَتْ الحياة في قريتها التي تحتلها المخدرات (كغياب عن حالة الوعي أو إشارة للركود والتخلف و الطغيان وذل الجنس بالقهر .. يري الكاتب في المرأة أصلا للحياة .. وكما لو كان لديه الكثير ليعزز هذا التصور عن البداية من عندها (والابيات في التقديم معنونة "إليكِ" ..) ، وأيضا أبيات محمد سيف تظلل العمل وتقوده في حالة رقيقة من الهدهدة . الفصول معنونة بوصفها "صورة" لحدث ما طوال الرواية ، و كما لو كان ينقل لنا الاحداث باعتبار أنها تكرار لحدث رئيسي يظهر في كل زمان ومكان ، ولعله يقصد هنا تكرار حالة "حميدة وصلاح" في قصة حب مبتورة .. وهي الحالة الثورية التي سارت علي خطاها حالة زينب ويوسف في نموذج للطهارة الثورية . رسم الكاتب شخوصة بسلاسة ورقة المتعاطف مع الحالة الثورية كسبيل وحيد للخروج من مأزق "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية" والتي وضحت في بعض الهتافات التي رصدها : فنجد زينب الفتاة الصغيرة التي تشب علي القهر في وكر للمخدرات ، يستخدم التاجر (عبد الجبار .. والاسم يحمل معني التجبر) جسدها اليانع لترسيب بودرة الحشيش عليه ، ثم يتفرغ بعد ذلك لجمعها بحرفية (ومزاج) من علي كل مناطق جسمها العاري .. وبكل دقة .. وطبعا أثناء ذلك تخترق عيناه جسدها مسببا لها حرجا فطريا لا يطاق (ينتج عنه حالات القئ والغثيان باستمرار) نجح الكاتب في تصويره لنا مصحوبا بالهوان والاذلال . يتزوجها تاجر المخدرات عنوة بسطوته علي أهلها البسطاء مثل كل أهل البلدة .. فلا يوجد من يغيثهم في ظل مواقف مبهمة للنظام الذي يحمي المواطن . يصف لنا متعاطفا حالة الفزع التي تنتابها من هذه الزيجة .. تهرب بعد أن يقتل عبد الجبار في صراع مفاجئ غامض مع الحكومة . وقبل أن يرثها أخاه، تهرب زينب وبأحشائها طفل، وعليَ غير هدي ، تشعر بالأمان في الدرجة الثالثة في القطار الي بورسعيد . يلجأ الكاتب الي الاستعانة بشخصية ميتافيزيقية غامضة (عمي عبد الحميد) تحلّ في المواقف العصيبة ربما ليحل بها مشكلة تكرار الحدث في شخصيات جديدة في تصور أسطوري .. فهو يظهر هنا ليساعدها علي الولادة (لتنجب طفلتها قمر) .. لا يمسها الرجل، بل يجلس متصفحا في كتاب (يستلهم منه ارواح كبار اطباء الولادة) إلي أن تتم هي وحدها ولادة ابنتها تماما .. ويلي ذلك مشهد غامض يموت خلاله الرجل محتضنا الكتاب (بينما تحتضن زينب وليدتها قمر) ، وأثناء ذلك تخرج الكتب من الباب طائرة في الهواء .. كأنما يعزز الكاتب حالة غياب (أو هروب) الوعي . وإمعانا في حالة الاذلال التي تتلبس زينب ، وقد استقرت في حجرة منفردة مع طفلتها علي سطح بناية ضخمة قريبة من وسط البلد لتمارس عملا بسيطا (بيع المناديل الورقية في إشارة المرور) .. ليس لها من أنيس إلا الجارة حميدة (والتي قادتها الي الغامض "عمي عبد الحميد" ليساعدها في الولادة) . تتعرض زينب للاغتصاب علي يد شرطي خلال سعيها لتجد قوت يومها ووليدتها (وببراعة يصف لنا الكاتب هول الحدث من خلال صراع "إقدام إحجام" قاهر بين نزعتها الجسدية المتشوقة وحالتها الانسانية التي تأبي الظلم والقهر) .. تتملكها روح انتقام ساذج لكرامتها .. تتطهر في ماء المطر المنهمرعلي سطح البناية ثم في حضن ابنتها ، متذكرة حضن جدتها .. آخر عهدها بالبراءة .. في لقاءات الرفاق علي سطح البناية خارج حجرتها ، بشغف تلتقط حواسها يوسف في أبيات محمد سيف .. تذوب في يوسف عشقا (منقذا ومخلصا لروحها) .. سرعان ما تشعر بأنها له ، وهو لها .. يعزز هذا الشعور حلمها به وتقمصها أيضا لأحاسيسه تجاهها (اشتهاء ذكوري .. تصف ما يمكنها ان تقدمه له من حب وحنان) . تتجلي براعة الكاتب في تجسيد حالات عميقة من التوحد في المحبوب وتتخللها حالات من الإحالة (يتباعد تصورها لواقعة اغتصاب الشرطي لها ليحل محلها تصور للشيطان) ، وهذه الحالة تحيط أيضا برائحة قميص زينب التي تشبثت بها عواطف يوسف (يرفض زيجات تدبرها لها أمه .. كأنما يبحث عن صاحبة الرائحة) . وفي خلفية الحدث تناص رائع ناضج لتصور حكاية النبي يوسف في المقدس ، فمع انتعاشها بحب يوسف ، يحيل وعيها عفن رائحة الشرطي الذي اغتصبها وصورته الي ميتافيزيقاه المقابلة (الشيطان) .. فتفزع وتتقيأ (فيزداد تعلقها بيوسف .. البرئ ، الطاهر ،المخلص) .. وبالمقابل نلحظ نفور حميدة من الثوار (لخوفها من تكرار حالة فقد الحبيب .. والتي تعاني هي نفسها منها) ، يتوحد لدي زينب يوسف بصلاح .. كصورة أخري تتكرر . يتكثف الحلم لديها عقب زيارتها ل"البالة" لشراء ملابس مستعملة لها ولابنتها (ومنها قميص نوم حالم .. أجج من اشتعال أحلامها بيوسف) .. فيكاد يتلامس الحلم مع واقع تفترضه وتتعلق به في تفاصيل انثوية حارة حميمة ، تكاد تكشفها وتحسها الطفلة قمر(رائحة يوسف وتمزيق قميص يوسف .. مستوحية الذئب المتربص بها دوماً) . يبرز لنا الكاتب في مفارقة بديعة سعي زينب للحلم بيوسف بينما يقتحم صلاح (المتوفي) حلم حميدة .. وحلم الثورة يشغل الجميع من ثوار سطح البناية . في ليلة السينما يبدو المجال مناسبا لتحيا زينب مع يوسف في فيلم يخلدهما .. فيطغي حبها ليوسف علي الأحداث السياسية ، وعلي نصائح حميدة بعدم الانجراف في قصة حب لن تورث إلا الأسي ، خاصة وأنها قد قررت أن تهبه نفسها .. فيوسف هو كرامة وعدل وحرية لها (فقط .. أنانية الحب) . وفي مشهد أسطوري (مبالغة يمكن تصديقها) يقدم يوسف الزهرة للشرطي (المغتصِب .. المجرم بالذات) في مناسبة عيد الشرطة .. فتدوي نفس أصوات الطلقات التي ترددت في القرية ذات يوم .. يموت يوسف الحلم محمولا علي أكتاف رفاقه في ثورة المطالبة بالحق في الحياة لكريمة .. تراه يضيع امام عينيها .. ضاعت بين الناس .. هي وحلمها .. يوسف هو صديق شوارع بورسعيد بمن فيها من بسطاء .. يتأمل قاعدة تمثال ديليسبس وكأنها تنتظر زعيما أو بطلا تخلده .. يتمتع بالبراءة والذكاء (تفرحه نعومة سمكة.. ) ويهتز وجدانه لذل العمال الذين يعمل بينهم ، فيثور معهم وتضج منه الحكومة ، يهرب ويخفيه صديقه (حمدي .. وسيبدو شبيها بخالد سعيد الذي قتل علي أيدي رجال شرطة سريين) في غرفة علي سطح إحدي البنايات .. في غرفة علي السطح يعثر علي قميص لزينب ، تستقر رائحتها المستقرة في القميص في وجدانه (والإشارة هنا لفطرية تلك العلاقة التي ستبني علي روح الثورة). نستطلع ثقافة يوسف من خلال جهل المُحقق بمضمون صورة شهيرة (ضُبطت في أحراز يوسف بعد القبض عليه) تعبر عن شكل التفجير النووي في هيروشيما مع اشارات دقيقة ليسارية أبي ذر الغفاري وتوضيح ما أصاب فكرنا من خلال حوار ذكي مع ملتحي في الحجز الملحق بقسم الشرطة .. يدور الحوار حول قتل صرصار كروح حرم الله قتلها الا بالحق .. يصور لنا الكاتب علاقة حميدة بصلاح كنموذج للحب الثوري الذي يسعي للحرية ويكسر القيود ، وهو هنا الأصل بينما الصورة هي علاقة زينب ويوسف غير المتحققة .. وهنا يتبدي لنا "عمي عبد الحميد" مرة أخري كحلٍ ميتافيزيقي يعين حميدة علي الاستمرار في الحياة ، فيستحضر لها صلاح (سراً كل ليلة .. كموعد ثابت تحاول زينب تصديقه .. ونحن أيضا .. ) حبيبها الذي قتل علي يد النظام في مظاهرات المطالبة بحقوق العمال .. ولعل كاتبنا هنا يؤكد لنا أن الفعل الثوري هو حالة من الحب المتطهر دوما ، تؤججه المرأة دائما .. وإن لم يتحقق في الواقع (الفيزيقي) الملموس .. فهو محفوظ في وعينا (وإن في ميتافيزيقية قريبة) .. إلي ان يتحقق .