الثورة الفرنسية التى اندلعت عام 1789م، وامتدت لمدة عشر سنوات كاملة، وأدت لانهيار السلطة الملكية، وزعزعة السلطة الكنسية، ليس فى فرنسا وحدها، بل فى سائر أنحاء أوربا، ليصاحبها إعلان مبادئ حقوق الإنسان والمواطنة، وإعلان قيام الجمهورية الفرنسية الأولى، والتى تلاها مجموعة من الإعدامات البشعة، التى طالت حتى قادتها، وانتهت بإعلان نابليون بونابرت نفسه إمبراطورًا على فرنسا ومستعمراتها التى كان له دور بارز فى توسيعها، يمكننا أن ندرك عمق هذا الأثر الذى تركته تلك الثورة؛إذا ما تأملنا قليلاً مردودها فى سائر أنحاء العالم، وعلى أحلام الطامحين فى الحرية والاستقلال ومقاومة الظلم، ولنأخد مثلاً ثورة الجزائر نموذجًا، فقد استخدم الثائر العربى ضد مستعمره شعارات وأفكار الثورة الفرنسية واستمد مثقفى الجزائر شعاراتهم وأفكارهم واستراتيجية المقاومة بشكل مباشر من الفرنسيين أنفسهم، الذين فرضوا ثقافتهم ولغتهم وتاريخهم علي الجزائر، التى اعتبروها مستعمرة فرنسية لفترة تزيد عنالمئة عام. بدأ الاحتلال الفرنسى للجزائر؛ عندما رفضت فرنسا المتخبطة فى فوضى داخلية وحروب خارجية أن ترد للجزائر ما كانت قد اقترضته منها نظير تبادل تجارى استمر لسنوات عديدة، واستغلت الحكومة الفرنسية واقعة سميت: واقعة المروحة والتى احتد فيها حاكم الجزائر على السفير الفرنسى وألقى مروحته الورقية فى وجهه؛ عندما أبلغه السفير: بأن فرنسا ممتنعة عن تسديد الديون، مما اعتبرته فرنسا إهانة كبيرة، ولكن لم يكن رد الفعل سريع تمامًا،بل انتظرت فرنسا ثلاث سنوات قبل أن تعيد إحياء الواقعة، عندما فشلت كل الحلول الإقتصادية لحل أزمة الديون الفرنسية،فكانت تلك الواقعة هى الذريعة التى طبق على أساسها الحل العسكرى لتحتل فرنسا الشريط الساحلى للجزائر، وتدخل فى مجموعة من المعارك الدامية مع القبائل الجزائرية المتفرقة،كل على حدى حتى تصل لاحتلال البلاد بالكامل.. وفى خلال فترة الاحتلال أثرت الثقافة الفرنسية فى الشعب الجزائرى تأثيرًا بالغ العظم والتعقيد، حتى أن الفرنسيين اعتبروا الجزائر جزء من فرنسا وليست مستعمرة تقليدية كباقى المستعمرات، وبلغ إجمالى عدد الفرنسيين الذين يعيشون فى الجزائر نحو مليون نسمة، فى حين أن عدد سكان الجزائر لم يكن يتعدى العشر ملايين نسمة، وبرغم اندماج العديد من أهل الجزائر فى أحضان مستعمرهم،إلا أن حركة المقاومة نفسها كانت بالغة التعقيد والغرابة،كما كان حال المستعمر حيث انقسمت المقاومة لجناحين رئيسين: الأول- كان يرى أن المواطن العربى الجزائرى يجب أن يحصل على كافة الحقوق والواجبات التى يحصل عليها المواطن الفرنسى، مع إعتبار الجزائر جزءً من فرنسا. والنصف الأخر يرى أنه من يجب طرد المستعمر الفرنسى، واستئصال وجوده بشكل كامل، وهذا الجزء قام بالعديد من العمليات المسلحة ضد الجيش الفرنسى، بل وضد أبناء شعبه من المهادنين للاستعمار،أو المتعاونين معه، وخاصة فى القرى والريف،وارتكب العديد من الجرائم البشعة، مما اضطر الجيش الفرنسى لإخمادها بالطائرات والدبابات والأسلحة المتقدمة، ليرتكب نصيبه من المذابح وجرائم الحرب بين مدنين عزل، حتى انهارت المقاومة بشكل كبير، وأحس الجزائريون أنه لا يوجد امل للتحرر من هذا الجيش القوى المنيع.. لتأتى مفارقة أخرىلا تقل غرابة عن سابقتيها،فقد انهار هذا الجيش القوى سريعًا فى الحرب العالمية الثانية، امام نظيره الألمانى، ليفيق أهل الجزائر على حقيقةوواقع جديد،ولكن برغم أن فرنسا قد سقطت عاصمتها –باريس- فى قبضة النازية إلاأنها لم تتخلَ عن مستعمراتها،وكانت ترى فى الألمان مستعمر شرس، يجب مقاومته بضرواة؛ لتنشأ حركة مقاومة سرية ضد المحتل يقودها الجنرال شارل ديجول من الخارج، وفى نفس الوقت تقمع ثورة الجزائرين، ولاترى أن لهم الحق فى الحرية والاستقلال، وذلك بالسلاح والعنف تارة، وبالأمل الكاذب تارة أخرى. ويستمر الحال كما هو بعد انتهاء الحرب العالمية وتحرير فرنسا من مستعمرها بينما ترفض منح نفس الحق للشعب الجزائرى، وتمنحه المزيد من العنف والقتل والتعذيب؛ لتندلع -كرد فعل على هذا- ثورة مسلحة فى الجزائر، يروح ضحيتها أكثر من 300 ألف شهيد، فى مقابل 10 ألاف جندى فرنسى،ويظهر الجنرال شارل ديجول البطل القومى لفرنسا، بوجه مستعمر شرير يسعى لإخماد الثورة والحفاظ على المستعمرة بكل ما أوتى من قوة وبطش،حتىأن عدد القرى التى أبيدت بالكامل أمام آلته القمعية، كان يزيد عن الألفين قرية، وكان الفرنسيون يحرقون الجثث فى أفران ضخمة، ليتخلصوا من أثارها، حتى لا يرصدها المجتمع الدولى، وخاصة روسيا وأمريكا، اللذان اجتمعا فى الأممالمتحدة على إدانة الاستعمار الفرنسى فى الجزائر،ربما فى محاولة لتشكيل نظام عالمى جديد تمامًا. ولكن هذا القمع لم يفلح فى إخماد الثورة فانتقلت من القرى والريف لقلب المدن الرئيسية، بل وقد ظهرت احتجاجات فى قلب العاصمة باريس من مهاجرين ذوىأصول عربية، ومن مثقفين ونشطاء فرنسيين ضد حكومة فرنسا الاستعمارية وقامت الشرطة بمقابلة تلك الاحتجاجات فى فرنسا بالعصى والهراوات، وفى الجزائر بالرصاص والقنابل. لتنجح فى النهاية الجزائر فى نيل استقلالها فى 5 يوليو 1963م،مقتبسة من شعلة التنوير الفرنسية ثورتها فى مواجهة أبناء فرنسا وقادتها الأبطال.