نشر موقع "دوت مصر" مقالاً للأستاذ محمود جمال، الذي لم يسبق لي شرف معرفته أو التعرف إلى منجزه الفكري أو مرجعيته الأكاديمية أو خبراته العلمية…، ولكن ما أعرفه جيدًا -بحكم مرجعيتي الأكاديمية وتخصصي في علوم اللغة العربية- هو "لإيلاف قريش" التي تناولها جمال بالتحليل اللغوي من زاوية المعنى والتاريخ.. وبعيدًا عن المقدمات الطويلة والتمهيدات المراهقة، أقفز إلى صلب الخطيئة التي ارتكبها محمود جمال في مقاله.. والخطيئة عندي ليست في مبدأ مناقشة النص القرآني بالنقد والتحليل، فمساحة التأمل والاجتهاد -بحسب ما أؤمن به- ليست محدودة، ولا تقف عند سقفٍ انخفض أو ارتفع! الخطيئة التي ارتكبها كاتب المقال الأول هي خطيئة الجهل.. والجهل هنا ليس -واللهِ- من باب السب، بل هو من باب الوصف الأكاديمي العلمي.. فمحمود جمال سأل عن المعنى من آيتين في السورة، وهما: "لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف"، وسأل بوضوح: هل للآيتين معنى؟ وأجاب بالنفي البات والنهائي.. وهنا ينتهي المقال سريعًا قبل أن يبدأ، لأن ما بعده مبنى على هذه الإجابة القاطعة.. فإذا كانت السورة بالكامل ليس لها معنى، بحسب الكاتب، فمن حقنا إذن أن نبحث عنه ونكمل المقال.. أما إذا كانت إجابة الأستاذ محمود خاطئة، وكان للآيتين معنى، فإن المقال فقد معناه! ولا أعيب على الأستاذ محمود عدم معرفته بالمعنى في الآيتين، لأن حجم ما يعلمه الإنسان -أي إنسان- لا يمكن أن يقاس بحجم ما لا يعلمه، وأنا واثق أن من المحتمل أن أجلس من الأستاذ محمود جمال مجلس التلميذ للأستاذ لأتعلم منه في علم ما، وهو إلى الآن ما لا أعرفه، ولكنني أعده ألا أتخذه قدوة، وأكتب مقالاً في علم وأنا جاهل به!! والفارق يا كاتب المقال بين عدم العلم والجهل أن جميعنا غير عالم بعلوم عديدة، ولكن الجاهل من لا يعلم أنه غير عالم، ولهذا وصفتك بالجهل من باب الوصف الأكاديمي وليس السب. يقول علماء اللغة، معظمهم أو جلهم إن لم يكن كلهم: إن كلمة "رحلة" في الآية: "رحلة الشتاء والصيف" منصوبة باعتبارها مفعولاً به لفعل محذوف تقديره "جعلنا"، فيكون المعنى إذن: "جعلنا رحلة الشتاء والصيف لتأليف قريش".. إلى هنا قد يبدو الخلاف مقبولاً وواردًا حتى يصدمني الكاتب ويدعي أن سيبويه احتار في حرف اللام، وقال: إنه لا علاقة له بكلمة إيلاف، وأنا أتفهم تمامًا أن محمود جمال لم يتمكن من فهم ما قال سيبويه -إن كان قد قرأه-، فهو صعب إلا على المتخصصين، وملخص رأيه أنه اعتبر شبه الجملة "لإيلاف" متعلقة بالفعل "فليعبدوا" على نية المفعول لأجله، فكأن المعنى كما رآه سيبويه: "فليعبدوا الله لتأليفهم". وسيبويه عالم لا يليق به أوصاف المقال بالدجال والمشعوذ والمهرج والساذج، ثم يكذب عليه ويدعي ما لم يقله! فسيبويه قال نصًّا:" وقال أبو علي: إن حذفت اللام من لإيلاف قريش، لانتصب على أنه مصدر مفعول له، كأنك قلت، ليعبدوا إيلاف قريش، أي لإيلافهم. هذا كلام سيبويه، فأين أوصاف كاتب المقال إن لم تكن في سيبويه؟ لا أظنها ذهبت بعيدًا، فهي محصورة بين كاتب المقال وسيبويه، ولا بد أن تنطبق على أحدهما!! أما ما زعمه المقال من كشف الغمة بوصل سورة قريش بسورة الفيل، فأنا أدعو كاتب المقال إلى مراجعة التفسير الكبير لفخر الدين الرازي، ليجد ذكر الرازى للتأويلات الثلاثة التي جاءت في التحليل النحوي والإعرابي لشبه الجملة "لإيلاف قريش".. ولكن أسأله أولاً: لم سمحت للقارئ أن يتصور أنك مكتشف هذا الربط ولم تنسبه إلى المفسرين؟ وبطريقة أخرى: لم استشهدت بالنحاة والمفسرين في موقف الإدانة ولم تستشهد بهم في موقف الاكتشاف؟ لن أسمح لنفسي بافتراض سوء النية من جانبك! يبدو إلى هنا أن مقالي في الرد على صاحب العبقرية الفذة قد انتهى.. إلا أنني أجد نفسي مضطرًّا قبل الختام أن أصحح أخطاءه اللغوية في مقاله، وإن كان هذا عيبًا على واحد في قامته العظيمة المتفوقة على سيبويه وتلامذته، ولكنها أخطاؤه المسجلة في مقاله في النهاية، ولا أعلم كيف أتجاوز عنها.. أدعوه إلى مراجعتها والتفكر فيها قبل أن يتفكر في "لإيلاف قريش"! الخطأ: "أو قديمًا أخبرت عنه".. والصواب: "أو قديم أخبرت عنه". الخطأ: "لا تبدو أكثر من جملة مبتورة".. والصواب: "لا تبدو أكثر من شبه جملة مبتورة". الخطأ: "ماذا لو أضفنا الآيات التالية لهذه الجملة".. والصواب: "ماذا لو أضفنا الآية التالية إلى شبه الجملة هذه أو إلى هذه الآية". الخطأ: "لا وجود لثمة صلة".. والصواب: "لا وجود لأي أو لأية صلة" لأن ثمة تعني هناك ولا تعني "أي" للأسف!" الخطأ: "سيبوية".. والصواب: "سيبويه". الخطأ: "ولأن بدا الخوف واضحًا في كلمات كبير المفسرين، رغم عدم إهماله ما فطن إليه".. والصواب: "مش عارف بصراحة.. بس مش فاهم!!!" الخطأ: "السورة التي تسبق هذه السورة هي صورة الفيل".. والصواب: "هي سورة الفيل". الخطأ: "وكان في إهلاكهم أمنًا لهم".. والصواب: "وكان في إهلاكهم أمن لهم". سؤالك: "لصالح من تم فصل السورتين؟" فيه إقرار منك بأنهما سورتان، وكان أولى بك أن تسأل: "لصالح من تم فصل السورة؟". وأرجو منك المعذرة لتجاوزي عن علامات الترقيم وعن الأفضل والمقدم في التوجيه الإعرابي، فقد آثرت أن أقف عند الكارثي والمفجع.