نيلسون مانديلا أول زعيم أسود لجنوب أفريقيا، الرجل الذى نال جائزة نوبل للسلام عام 1993 مناصفة مع الرئيس دى كليرك أخر رئيس أبيض لتلك البلاد، والذى استمرت بينهم المفاوضات لفترة أربعة أعوام طويلة وشاقة حتى اثمرت عن أول انتخابات مباشرة يسمح فيها للأفارقة السود بالتصويت، وشارك فيها قرابة 23 مليون شخصاً. هذا الرجل لم يكن دائماً داعياً للسلام كما يظن الكثيرون، ولكنه أيضا لم يكن ارهابياً وقاتلاً كما صورته حكومة التمييز العنصرى فى جنوب أفريقيا عندما ألقت القبض عليه وحاكمته بالسجن المؤبد.. لقد كان رجلاً حكيماً، أدرك أن الصراع مع السلطة الغاشمة لا يجب أن يتم على وتيرة واحدة وأن للمقاومة السلمية وقتها،وللكفاح المسلح وقته، وأن للتفاوض وقت أخر. لم تكن قصة التمييز العنصرى قصة غريبة على البشرية؛ فقد اعتمدها المحتل دائما ضدأصحاب البلاد الأصليين، بدعوى التفوق والحق الطبيعى فى الريادة والحكم -والأمثلة من التاريخ- ولكن العجيب أن ابتدعت الحكومة نظاماًأكثر حدةوصرامة،له صيغة قانونية ودستورية سمى "الأبارتهايد" يتلخص ليس فقط فى التمييز بين البيض والسود فى جنوب أفريقيا، بل الفصل بينهم تماماً فى السكن والعمل والمعيشة والمواصلات،وبالطبع الحرمانمن ممارسة الحقوق السياسية والقانونية. وكان العدو اللدود لهذه السياسة حركة "المؤتمر الوطنى الأفريقى-ANC"، التى أنضم إليها مانديلا فى بدايات شبابه، وهو المحامى الذى ينتمى لقبيلة ماريبا، وهى من أهم القبائل فى المنطقة، وعائلة حاكمة مبجلة،فترك كل هذا وراء ظهره هرباً من زعامة القبيلة والزواجالمرتب، واتجه للعمل فى جوهانسبرج ليلمس أوضاع أبناء وطنه، ويعانى هو نفسه من عجرفة واضطهاد القضاة البيض،ولكنه يؤثر أنه يوجه شعبه للتحرك السلمى ضد السلطة الغاشمة منعاً من انزلاق البلاد لدوامة من العنف والفوضى،وإراقة الدماء ولكن الحكومة استعملت القوة المفرطة واعتقلت 145شخصاً بينهم مانديلا وحُكِم بتهمة التحريض والخيانة ولكن أطُلِق سراحه بسببالضغط الشعبى وتصاعد التظاهرات، ولكن على الجانب الأخر كان المستوطنون يتمرنون على حمل السلاح، ويدربون نساءهم وأطفالهم خوفاً من غضبة الأغلبية السوداء، وأدى ذلك الاحتقان لمذبحة كبيرة سميت مذبحة شارفيل، قُتِل فيها 49 من السود تلتها حركات احتجاجية واسعة قُتِل فيها ما يزيد عن 100 شخص، وهنا تغيرت سياسة نيلسون فأسس بنفسه جناحاً عسكرياً سُمِى "رمح الأمة"، وأشرف على العديد من العمليات المنظمة ضد مؤسسات الدولة، وخطوط الإمداد للشرطة والقوات المسلحة، وأصدرت الحكومة قرار بحل المؤتمر الوطنى واعتباره جماعة إرهابية،وأُلقِى القبض على نيلسون،وأثناء محاكمته تم القبض على مزيد من رفاقه وبحوزتهم ملفات ووثائق لخطط تفجيرية أخرىتدين نيلسون نفسه؛ وحُكِم عليهم بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة. ومُنِعت عائلته من زيارته؛ حتى أنه لم يُسمح له بحضور جنازة أمه وابنه الذى مات فى حادث سيارة،وطال سجنه حتى أنه اجتمع مع المناضلين الجدد للحركة بداخل السجن، وانتخبوه زعيماً لهم، وأصبح أيقونة للثورة والنضال على مستوى العالم. ذلك العالم الحديث الذى كان أخذاً فى التغيير؛ متجهاً للانفتاح فى الثمانينات، بينما حكومة جنوب أفريقيا البيضاء غارقة فى عنصريتها حتى الثمالة؛ حتى أن الطلاب البيض أنفسهم تظاهروا ضد سياسات حكومتهم، وطالب العديد من رؤساء العالم ومفكريه وفنانيه الحرية لمانديلا وشعبه، وقد غنى المطرب الأمريكى ستيف وندر لمانديلا فى حفل رأس السنة متلاعباً بكلمات أغنيته الشهيرة I just call قائلاً:" لقد اتصلت بك لأعبر عن حبى، لقد اتصلت بك لأقول كل عام وأنت بخير يا نيلسون"، واضطرت أخيراً الحكومة للتفاوض معه،فحاولوا أولاً تحسين وضعه فى السجن ليقطن فى سجن كالمنتجعات السياحية، ولكنه كان صلباً وذكياً، فأخذ كل الامتيازات ولم يمنحهم شيئاً فى المقابل. ليُطلق سراحه فى فبراير1990 ويبدأ جولة مباحثات حرة مع الرئيس الأبيض دى كليرك وقابل خلال تلك الفترة مارجريت تاتشر وبابا الفاتيكان والرئيس الفرنسى فرانسوا ميتران وكاسترو وغيرهم.. مما شكل عبءً مضاعفاً على حكومة جنوب أفريقيا، وفى النهاية رضخت الحكومة وأعلنت الانتخابات العامة، ليصبح هو أول رئيس أسود لبلاد أغلبيتها من السود! ويُفاجئ العالم ببرنامج حقيقى للمصالحة الوطنية،غير ناسى الأقلية البيضاء التى تعتبر شريكاً فى الوطن، استغل نهائى كأس العالم لبطولة الرجبى بأن ذهب الى الاستاد مرتدياً قميص الفريق الوطنى، الذى كان كله من البيض، وواضعاً على ظهره رقم ستة وهو رقم كابتن الفريق، ليهتف مشجى الرياضة باسمه، واسم الفريق معاً، ثم انتقل لخطوة أكثر عمقاً وخطورة حيث عقد لجنة للمصالحة سميت: "لجنة المصالحة والحقيقة" اعتمدت فكرتها على أن يتصارح الجميع بما حدث من جرائم وانتهاكات فى الماضى، ويتم التصالح عليها، وبالرغم من أن تلك اللجنة أطلقت صراح المجرمين؛إلا أنها أجبرتهم على الاعتراف بالحكم الشرعى الجديد للبلاد والتأقلم عليه، ودفعت المجتمع للأمام،لم يخلو الأمر بالطبع من حوادث انتقام هنا وهناك وتعنت وصلابة رأى من بعض الأطراف، ولكن فى النهاية أنقذ بلاده من مصير دول كثيرة لاقت ويلات المراحل الانتقالية، وكان لديه حتى فيما أُعتبر عنفاً وإرهاباً المبرر القوى.