ما بين 1961 -1965، استخدمت الولاياتالمتحدة نظام التخطيط الاستراتيجي في وزارة الدفاع وأحدث نجاحا كبيرا مما دعا الرئيس الأمريكي ليندون جونسن، إلى إصدار توجيهات في أغسطس 1965 بتفعيل منظومة التخطيط الاستراتيجي في كل الأجهزة الفيدرالية للحكومة الأمريكية تحت اسم "نظام التخطيط والبرامج والموازنة"، وواكبت التوجيهات الرئاسية تغييرا في منظومة التعليم فشرعت أغلب كليات إدارة الأعمال بتدريس منهج التخطيط الاستراتيجي ضمن مقرراتها تحت اسم "السياسات الإدارية"، ثم تحول هذا المقرر الفرعي لقسم داخل الكليات يحمل اسم "التخطيط الاستراتيجي". وننتقل إلى ما بعد الستينات، ففي عام 1976 ظهر أول نموذج شامل لمفهوم التخطيط وأطلقوا عليه "فلسفة الدفع"، أي مصادر القوة للدولة وسبل صياغة الأهداف الشاملة لها والأهداف الفرعية للوحدات المكونة مع الأخذ في الاعتبار أن الأهداف الشاملة تعتبر الجسر ما بين الاستراتيجية الشاملةcomprehensive strategy (المشروع القومي) وأهداف الوحدات المكونة لها، متمثلة في (الوزارات). وتطور التخطيط وانحرف عن حدود النظرية العلمية وأصبح يتجسد في "عقل النظام" لا "عقل الدولة"، وأصبحت نظرياته ومذاهبه تخضع لقناعات هذا العقل لا العكس، سواء كان هذا العقل فردا أو حزبا أو جماعة، وهذا لا يعنى بالضرورة أن يكون انحرافا للسيئ ولكنة بالضرورة سيكون كذلك مع دوران الزمن، وسيتضح أن هذا العقل وظف التخطيط للإبقاء على منظومة حكمه ليحول مؤسسات الدولة لأدوات خاضعة لتوجيهات المنظومة الحاكمة بدلا من خضوعها لمشروع الدولة المستقل (الاتحاد السوفييتي, ألمانيا النازية). وعلى هذا، يمكن أن نتفهم ما وراء طرح المرشحين أو الأحزاب لبرامج، هذا إن وجدت برامج، ولكن الأهم هل تلك البرامج تجسد بالفعل مشروعا قوميا مكتملا أم مجرد رؤية كلية تعتمد في طرحها على توظيف ظروف المرحلة كتحديات للمستقبل للفوز بمكاسب سياسية؟. مفاد الأمر أن التخطيط كأسلوب علمي في التنمية ينبغي أن يؤمن ويجسد مشروع الدولة لا النظام الحاكم وذلك لاعتبارين: الاعتبار الأول: أن البرامج والمشروعات القومية الموجهة بدافع الزعامة أو الانتماء السياسي أغلبها مرحلية ولا تتجاوز عمر الزعيم أو الفكرة (الأيدلوجية). الاعتبار الثاني: أن التنمية العشوائية وغير المخطط لها تكون مدفوعة بحكم الظرف والحدث، ويكون لزاما عليها أن تختار في صياغة فروضها بين كونها تعمل بمنطق رد الفعل وبين استيعاب توابعه. ختامًا، تصبح الدول عظمى لأنها تمتلك عقلا ينتج استراتيجية كبرى وقت الأزمة, وتمسى دولا بالاسم عندما تتعارض استراتيجيتها وعقلها عند منعطف الصراع. كثيرا من الدول العظمى أطاح عقل حكامها بمكانتها، وفقدت معها القدرة على استحداث بدائل فكرية واستراتيجية تخرجها من عجزها.