ليس شخصًا بل مشروعًا، ليس فردًا بل منهجًا، ليس كلمة بل راية، معه كل هزيمة انتصار، ودونه كل انتصار هزيمة، اعتمد على قوة المنطق، واعتمد عدوه على منطق القوة، ولما سقطت قوة عدوه، انتصر منطقه وكان انتصاره أبديًا، تمزقت رايته ولم تنكس، تمزقت أشلائه ولم يركع، ذبحوا أولاده وإخوانه وأصحابه ولم يهن، ومَن سواه الإمام الحسين.. «مدد يا أمير المؤمنين مدد يا أبو زين العابدين مدد يا بن بنت رسول الله يا سيد الأمم يا ولي النعم يا منبع الكرم يا سبط رسول الله يا سيد الشهداء يا طاهر الآباء يا دوحة الزهراء جدك رسول الله يا قرة المختار يا قوة الكرار يا برزخ الأسرار منك رسول الله». عند بابك الأخضر مرابطين، أعدادنا لا تحصى، نرفع اسمك عاليًا، ونطلب الدخول، عيوننا زائغة، لا نرى سواك، أحدهم بصوته الجهوري ردد كلماتك «الموت خير من ركوب العار/ والعار خير من دخول النار»، غيره صرخ: «العشق سر البلوى»، نرى في ملامحنا الأرض، أيدينا استماتت على المسبحة، جلابيبنا الواسعة تدور في ساحاتك وتتشابك الأيدي فتشكل حلقة الوصل بين الأرض والسماء، بين الأرض والوجود.. «نحن في ساحة الحسين نزلنا/ في حمى الله من أتى لحسينا/ يا بن طه البشير جئنا ببابك/ وشرف فاهنا بلثم عتابك/ يا حفيد الرسول جئنا رحابك/ منبع الجود مصدر الكرمينا/ رحمة الله للبرية عطاها/ من قرن ذاته بذاته واصطفاها/ طيبة شرفت بهجرة طه/ يا هنا مصر يوم جاء حسينا». كأنه بطل أبطال الحكايات الشعبية، خرج من بيننا مصليًا على النبي، واتخذ لنفسه ركنًا من أركان مسجدك، وحدثنا عنك وعدد كراماتك: «قلت إنه الكوثر والفضيلة، فوجدته أكثر من ذلك، فرجوت الله تعالى أن يلهمني كلمة تعبر عن حقيقته فألهمني أن أقول أنه الحسين وكفى.. بيتي الجمالية، وطفلتي خرساء، عندما وضعت على وجهها راية الحسين نطقت بأسماء آل البيت، مدد يا إمام». وقتها مر بين الجموع كهلًا قلبه لا يخطئ عشق الإمام، مناديًا: «الشفا.. الشفا»، اتكأ على كتفي ومد يده برغيف خبز بملح، وكرر في أذني: «الشفا.. كلما حاولت أن أعبر عن الحسين بالكلمات، وجدت الكلمة عاجزة عن التعبير عن نفسها فيه»، ومضى مستنشقًا مسك الغناء. ينشد والكل من بعده مرددين، أتى من السودان ليوزع الدفء بكلماته، كان على رأس هذا الشيخ الجنوبي عمامة باللونين الأبيض والأخضر، وجهه الأسمر بات نهارًا سرمدًا، وحوله الرجال والنساء متراصين تمامًا كتلك المسبحة التي توهجت حول عنقه، مسح على رأسي قبل أن تقترب يده من السماء، وغنى.. «إني أحب حسينا/ قرة كل عينا/ حسين تجلى والنور استهل/ يا طرفي تملى قد زال الظلام/ أفرحي يا عيني بنور الحسين/ بلغتي التمني ونلتي المرام/ محب أتاكم قاصدًا حماكم/ يبتغي رضاكم يا نسل الكرام». جذبه الحق من السودان إلى حضرة الإمام، بعدما انتهى غناءه ولم تنتهي دموعه، مد يده ليساعد شيخ ممن لا يعرفون لأنفسهم ملاذًا سوى مسجد ولي النعم، حمل عنه عددًا من المصاحف وناولني عددًا آخر، ومضى ثلاثتنا نوزعها على الجموع، تقدمنا ذلك الشيخ المرابط مناديًا: «نفحة.. اقرا كلام ربنا»، فاصطدمت مرة أخرى ببطل الحكايات الشعبية وما زال يسرد كرامات "أبو زين العابدين": «من كرامات مولانا ولي النعم، ولي الصفح والكرم، سيدنا الإمام الحسين، مع أحد طلاب الأزهر الشريف، أرسله والده البسيط من الريف ليتعلم، رغم أنه لا يملك ما يعين به ولده، أدرك الطالب ذلك فذهب إلى مقام مولانا وانخرط في البكاء، ثم أخذته سنة من النوم، فسمع مولانا يقول له يا بني لا تحزن وعليك أن تصلي العشاء كل يوم بمسجدي وتتوجه إلى الركن الفلاني وترفع طرف الحصير ستجد ما يعينك، فاستيقظ الطالب على صوت المؤذن، صلى العشاء، وقصد المكان الذي أخبره عنه الإمام الحسين فوجد عشرة قروش أخذها، وكانت قيمتها في هذا الزمان تكفي أسرة، واظب على ذلك يوميًا حتى تخرج.. تدور الأيام ليعين إمامًا بالمسجد الحسيني، وفي يوم ما وهو يلقي درسًا بين صلاة المغرب والعشاء سأله مصلي: هل جسد مولانا الحسين في مقامه كاملًا؟ أم رأسه الشريف فقط؟ فرد: الموجود بالمقام الرأس فقط، أثناء نومه في تلك الليلة رأي مولانا يقول له يا بني جئتنا جائعا فأطعمناك، وعاريًا فكسوناك، وجاهلًا فعلمناك، من الذي أعطاك أهي الرأس؟ ففزع الرجل وأسرع حافيًا للمقام وهو يصيح "أشهدكم يا أمة رسول الله ويا أحباب سيدنا الحسين بأنه كاملًا ومكملًا في مقامه وروضته الشريفه». خارجًا إلى الساحة فأوقفني شاب يبيع حلاوة المولد: «خدلك ملبن.. خدلك حمص.. معايا الفولية والسمسمية»، بالكاد سال لعابي أمام الحلاوة الشعر، باع لي معها بعض الحكايات، فحكى عن بياعين القصب الصعايدة وبياعين السبح وغيرهم ممن يعيشون على احتفالات الموالد في مختلف القرى والمدن، لا يبيعون بضاعتهم في القطارات أو الأسواق، فقد ارتبطوا بشكل وثيق بالموالد، هنا وحسب رزقهم، أو بحسب تسميته كرامات بيت رسول الله والأولياء. بإشارة من يده تحركت نحوه، رجل تبدو عليه الهيبة والوقار، وقف أمام بيته الذي تحول لساحة متعددة الوظائف، هنا رجالات يتبارون في التحطيب، وهنا شيخ يتلو آيات الذكر الحكيم وينشد في مدح الحسين، أما هناك فالمطبخ، نساء تعد كميات الطعام الهائلة التي تقدم مجانًا للمجاذيب في حب ولي النعم، تناول الحاضرون «النفحات»، وغرقوا جميعًا ينشدون حتى الفجر: