الحلم بتحقيق مستقبل أفضل كانت حجة حكومات ديمقراطية لإقناع شعوبها بتقبل عيوب الأنظمة التي تدعي التحضر، وحكومات مستبدة تخدع شعوبها بأوهام الوطنية والسيادة الترابية، وحكومات ثالثة حيدت ضمائر شعوبها مقابل امتيازات منتزعة من مصائر شعوب أخرى. بأوهام نشر التحضر ونشر الدين ترك الانسان لغريزة الجشع وحب التملك والسيطرة الكامة في نفسه العنان فاستباح دم أخيه الانسان في كل مكان ونشر القيم التي تبرر هذا السلوك ومقاصده: علماء، مفكرون فلاسفة، رجال دين من كل الملل، حملة مباخر، فنانون، حملوا مشعل تبرير سلوك السلطة وتقاسموا معها المسئولية عن كل الخراب الروحي والمعنوي الذي حل بالبشرية عبر القرون. وحين تحل ساعة النهاية، كان هناك فريق آخر تم تأهيله باستمرار لضمان الخروج الآمن. هم ومن بعدهم الطوفان، الحريق أو الدمار الشامل للكوكب. أما السلوك الأكثر خسة ونذالة فيكمن في أن يسارعوا بإغلاق البوابات دونهم وليس مهما خنق فرصة نادرة لآخرين غيرهم قد يستطيعون النجاة، فمن لم يهتم بغير ذاته منذ البداية، لن يلتفت سوى لتخليص نفسه عندما حانت النهاية. في فيلمه الأخير "انترستيلر" يقدم كريستوفر نولان معضلة وجودية حقيقية: هل إذا حلت النهاية، ستكون الأولوية أمام الجنس البشري إنقاذ أنفسهم في الوقت الراهن أم السعي لإنقاذ الأجيال القادمة وتوفير ملاذ آمن لها لتحظى بمستقبل أفضل. وأمام هذه المعضلة التي تدفع بالبشر، برغم كل مساوئهم وخطاياهم التي كانت السبب في الأصل لوصول حالة الكوكب لهذه النهاية، أن يتخلوا عن أطماعهم الزائفة ويقبلوا التضحية بأنفسهم لإنقاذ الأجيال القادمة، لمن سيكون قرار مصير الكوكب، من سيكون صانع القرار في هذه الحالة؟ للإجابة على هذه الأسئلة يجب استعراض قصة الفيلم، وهي أقل من العادية، تعتمد بالأساس على فكرة سوداوية محورها دمار العالم الوشيك بسبب مشكلة تعوق استمرار الزراعة على كوكب الأرض، وهي فكرة مستهلكة للغاية، ربما بسبب حروب مدمرة، أو لأي سبب آخر. الجديد الذي يقدمه نولان هنا هو حالة الإدانة المتأخرة للسياسات الاستعمارية والنيوليبرالية المتوحشة التي أهدرت موارد الكوكب على حروب لا طائل منها لا توفر أمنا ولا تحقق سلاما بل تتماشى مع أطماع أصحاب المصلحة العليا. بالرغم من ذلك لم يستطع أن يتخل عن ان يكون المنقذ للعالم أمريكي. يجسد ماثيو ماكونهي دور كوبر، رائد فضاء سابق تحول لمزارع، ولكنه غاضب من الوضع الراهن. يكتشف مقرا سريا لوكالة ناسا، حيث يقابل علماء منهم البروفسور "براند"، مايكل كين، الذي يشرح له وسيلة إنقاذ البشرية عبر مهمة في الفضاء تتمثل في البحث عن كوكب بديل خارج المجرة يمكن الوصول له عن طريق ثقب دودي مُكتشف بجوار زحل، بينما يقوم هو بحل معادلة رياضية تمثل خطة بديلة في حال فشل الخطة الأولى. في النهاية وبعد رحلة من الإبهار البصري واستعراض تقنيات ناسا في صناعة سفن الفضاء القادرة على اختراق المجرات، يكتشف الانسان أنه يخدع نفسه وأن العلماء يعرفون مسبقا حقيقة أن الكوكب هالك لا محالة، وأن فكرة وجود حياة ممكنة على الأرض غير ممكنة وإن أمكنت فلن يكون هناك وسيلة لنقل البشر الموجودين عل الأرض المهددة بالفناء لهذا المكان. هنا يبدأ البطل في التفكير في أسرته، وهل كان من الأجدى أن يبقى إلى جوارهم، أم يضحي من أجل مستقبل أجيال قادمة، هل يجب أن تموت أجيال لتحيا أخرى، بدون تخيير المضحين إن كانوا يقبلون بهذه البدائل. برغم الصراحة المفرطة التي يتناول بها فيلم خيال علمي، مزود بجرعات مكثفة عن عالم الفضاء والفيزياء والثقوب الدودية والثقوب السوداء وعوالم المجرات والأبعاد الثلاثية والنسبية وتفاعل الانسان مع فكرة الزمكان والجاذبية وحساباتها وتأثيرها على الانسان، تبقى الحبكة الدرامية ضعيفة للغاية وتقليدية حتى النهاية دون أن تتخلى عن الحس التجاري خاصة إمكانية تقديم جزء ثان من العمل. بعد اكتشاف خديعة أن البروفيسور براند توصل لحل المعادلة بالفعل قبل إرسال كوبر للفضاء، وأن العلماء الذين تم إرسالهم مسبقا قد قتلوا وأن من بقى منهم ظل يرسل إحداثيات زائفة، أملا في أن يأتي أحد لإنقاذه من الكوكب الذي سقط عليه، وبعد دخول البطل للثقب الأسود، وتجربة التعايش مع عالم خماسي الأبعاد حيث الزمن جبل تصعد إليه الكائنات أو وادي تهبط إليه، يجد نفسه في منزله، بعد أن مرت عشرات السنوات بحساب تغير الزمن في الفضاء. يقوم بإرسال إشارات لابنته لكي تمنعه من قبول المهمة، لأنها محكوم عليها بالفشل. انتهى دور العلم وبدأ الخيال، لكي ينجح الفيلم، فلن يقبل جمهور مهما كانت درجة وعيه، بنهاية حدوتة بفشل المهمة، البطل الأمريكي لا يعرف الفشل، وإنقاذ الكوكب يجب أن يتم، حتى مع جلد الذات. مع ذلك لا يزال كوبر يتساءل: من بيده تقرير مصير الكوكب؟، من يملك هذا الحق؟. كان هو قد قرر بالفعل التخلي عن أسرته مع علمه باحتمالية فشل المهمة، أما ابنه فقد قرر ألا يترك بيت الأسرة، حتى مع استحالة المعيشة وتردي الأحوال من حوله. ينتهي الفيلم نهاية سعيدة ككل الحواديت الأمريكية: الإبنة توصلت لحل للمشكلة بمساعدة أبيها الذي تفصله بينها عوالم أخرى، إلى أن يلتقيا في مجرة أخرى انتقلت إليها البشرية، بينما تنتظر زميلته ابنة الدكتور براند (آن هاثواي) مفقودة على سطح كوكب آخر تنتظر مجيئه ليكون مشهد الختام هو التمهيد لجزء جديد يستهله البطل بالبحث عن رفيقته الضائعة.