كتب: وائل فتحي- ياسمين الغمري على رصيف محطة مترو الجيزة أطفال لم تتجاوز العاشرة بعد، يلهون بعصا طبية، يركلون بعضهم البعض، يتبادلون الضحكات في لحظة عابرة، يقطعها صفير القطار القادم ليسرع كلًا منهم لممارسة عمله اليومي داخل عربات المترو بالإتكاء على العصا، متصنعين العرج وقلة الحيلة بتأليف قصص وحكايات وهمية يستعطفون بها قلوب الركاب مقابل بضعة قروش. منذ أكثر من شهر رأيت هذا المشهد، الذي ألح على الذاكرة مستدعيًا أحداث فيلم «المتسول» للفنان عادل إمام، وكيف كانوا يبترون الأيدي والأرجل للمتسوليين لتثير هيئتهم هذه استعطاف المارة، هذا الفيلم ما هو إلا نقطة صغيرة في محاولات اختراق عالم الشحاذة، لأن بالتفتيش في تراثنا الأدبي القديم، نجد أن للمتسولين تاريخ حافل بالغرائب والطرائف.. للشحاته قواعد وقوانين وأصول وشروط أيضًا، كما لها أساتذة وأتباعًا يتأرجح فيها المستجدي والسائل بين الضعف والقوة، والغباء والذكاء، فمن الشحاتين من يستجدي الناس لأجل القوت، ومنهم من يكدي بغرائب المنطق، وسحر الخطبة، ومنهم من يمدح أسخياء الناس بفن القصيد لاستجاداهم وإثارة عطفهم. «موسوعة غرائب الشحاتة وعجائب الشحاتين» دارسة يقدمها الكاتب سيد صديق عبد الفتاح، يستعرض فيها عجائب وغرائب المحترفين من أهل الشحاذة- أو الكدية، في كل الميادين من خلال نوادرهم وقصصهم وحكاياتهم العجيبة منذ عصر الخلفاء الراشدين مرورًا بالعباسين والأمويين حتى عصرنا هذا. قبل الانغماس في عالم الشحاذة وأدب الكدية (الإلحاح في الطلب)، يشير «عبد الفتاح» إلى أن هناك أناسًا كانوا يتظاهرون بالفقر ويلتجئون إلى الكدية لينجوا من أعباء ثقال بدافع الكسل ، لأن الفقير "خفيف الظهر من كل حق، منفك الرقبة من كل رق، لا يلزمه أداء الزكاة، ولا تتوجه عليه غوائل النائبات، ولايطمع فيه الأهل والجيران». وأيا كان هؤلاء، وسواء أكان الفقر حقًا أم وسيلة لابتزاز الأموال، فقد تفنن الناس في السؤال، وبرعوا في ضروبة وحيلة، ونهجوا فيه نهوجًا مختلفًات، وسلكوا طرقات متباينات، لأنهم وجدوا في هذه الحيل سبيلًا إلى الغنى، كما وجد الظرفاء المترفون بلطفهم ورقتهم وشعورهم النعيم في قصور الخلفاء. يرجع «عبد الفتاح» سبب انتشار الكدية والشحاذة في القرن الرابع الميلادي، على نطاق واسع إلى خلل في النظام الاجتماعي قائلًا: لم تكن هذه الحرفة على ما فيها من إراقة لماء الوجه مكروهة ممجوجة، بل كانت منتشرة ذائعة، ولعل السبب في ذلك راجع إلى انتشار ظلم الحكام في القرن الرابع وما قبله، وفساد النظام الاجتماعي فلا عجب أن يلجأ الناس إلى الكدية، هذه المهنة التي كان ساسان أول من وضع أساسها، ليحتالون بها على المعاش. باستعراض الأمثلة والنوادر والأخبار يتبين لنا أنه كانت للمكدين دولة غير ذات حدود، فهم يضربون في الأرض شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، يعتمدون على فصاحتهم وصبرهم وحيلهم، وكانت لهم رموز خاصة، واصطلاحات لا يكاد يفهمها غيرهم، حتى انها كانت ضرب من ضروب الأدب في القرن الرابع. ويعرف «عبد الفتاح» أصحاب الكدية بأنهم قوم يتجولون في البلاد المختلفة والأمصار المتباعدة، يكتسبون بالأدب تاره، وتاره أخرى يحتالون على الناس بحيل ملفقة، وأكاذيب مخترعة، وقد أطلقوا على أنفسهم (بني ساسان)، مشيرًا إلى أن الكدية لم تكن أمرا هينًا ولكنها: علم وفن ودراية ومران ودربة وتلقين لها أصولها التي لا بد من إجادتها حتى يصير المرء كداء ناجحًا، ولها دستورها الذي أجاده سار في طريقة موفقًا، ومن لم يتقنه كتب عليه الفشل الذريع والخيبة الدائمة، فلا بد للمكتدي أن يكون محتالًا ذكيًا، فطنًا فصيحًا، شجاعًا يتقن الحيلة ويجيد النزال ويحسن القول أمام السلطان. كُثر هم الفقراء الذين ضمتهم بغداد والأقاليم، ولكن «أبو العتاهية»، «أبا الشمشمق»، و«أبا فرعون»، نفسوا كربهم بأبيات من الشعر الباكي خلدت ذكرهم، فهذا أبو الشمقمق يجوع فلا يجد من يطعمه، ويعرى فلا يجد من يكسوه، فيدع عياله يأكلون خبز الغطارة ويشربون بول الحمارة: إن العيال تركتهم/ بالمضر خبزهم الغضارة/وشرابهم بول الحمار/ مزاجة بول الحمارة..ثم ينادي:لقد أهزلت حتى/ محت الشمس خيالي/لقد أفلست حتى/ حل أكلي لعيالي/ من رأى شئيًا محالًا/ فأنا عين المحال. وهذا أبو فرعون يحمل صبيته الصغار، سود الوجوه، خمص البطون عري الأجسام يطوف بهم في الأسواق يسأل الناس أن يتولى أمره ويشبعوه. وصبية مثل فراخ الذر/ سود الوجوه كسواد القدر/جاء الشتاء وهم بشر/ بغير قمص وبغير أزر/حتى إذا لاح عمود الفجر/ وجاءني الصبح عدوت أسري/وبعضهم ملتص بصدري/ وبعضهم منحجر بحجري/أسبقهم إلى أصول الجذر/ هذا جميع قصتى وأمري. ومن الكدائين المشهورين الذين عنى "الجاحظ" بأخبارهم لإمامتهم في المهنة وتقدمهم فيها رجل يقال له "خالد بن يزيد" مولي المهالبة المشهور ب«خالوية المكدي»، وكان ذا براعة في مهنتة مع بخل شديد فيه، ومن طريف ما أثر عنه نصائحه لابنه التي يقول فيها: "لو كنت عندي مأمونًا على نفسك لأجريت الأرواح في الأجساد وأنت تبصر ما كنت لأتفهمه بالوصف، ولا تحقه بالذكر، ولكني سألقى عليك علم الإدارك، وسبك الرخام، وصنعة الفسيفساء، وأسرار السيوف القليعة، وعقاقير السيوف اليمانية وعمل الفرعوني، وصنعة التلطيف، أنا لو ذهب مالي لجلست قاصًا، أو طفت في الآفاق كما كنت مكديًا، اللحية وافرة بيضاء، والحلق جهير طل، والسمت حسن، والقبول علي واقع، إن سألت عيني الدمع أجابت، والقليل من رحمة الله خير من المال الكثير، وصرت محتالًا بالنهار واستعملت صناعة الليل، أو خرجت قاطع طريق، أو صرت للقوم عينًا، ولهم مجهرًا". أيضًا من الشعراء الساسانيين الذين عاصروا "بديع الزمان الهمزاني" في القرن الرابع «الأحنف العكبري» فقد كان أأدب بني ساسان في بغداد، واشتهر بالظرف والشعر الرقيق في الحرفة الساسانية وله قصيده طويلة في الكدية. لم يقتصر عالم الكدية على الرجال فقط، إذ كان للنساء نصيب منه، فبرعوا في ضروب الشعر لاسيما أدب المقامات فتجد عجوز تستعدي القوم بقولها. أشكو إلى الله اشتكاء المريض/ ربيب الظلام المتعدي البغيض/ يا قوم إني من أناس غنو/ دهرا وجفن الدهر عنهم غضيض/ فخارهم ليس له دافع/ وصيتهم بين الورى مستفيض/ كانوا إذا ما نجعة أعوزت/ في السنة الشهباء روضًا أريض. من طرائف أهل الكدية الذي ذكرها المؤلف في موسوعته، موقفًا لسائل أتى دارًا يسأل منها، فأشرقت عليه امرأة من الغرفة فقال لها: يا أمة الله، لك أن تصدقي علي بشئ؟ فقالت: أي شئ تريد؟، قال: درهمًا، قالت: ليس، قال: فدانقًا، فقالت: ليس، قال: فكسرة، فقالت: ليس، قال: فكفًا من دقيق، فقالت: ليس، قال: فزيت.. حتى عد كل شئ في البيت وهي تقول: ليس، فقال لها: يا ذا وما يجلسك؟.. مري تصدقي معي. من العصر العباسي ينتقل بنا المؤلف إلى أربعنيات القرن الماضي، إذ لم تتغير أحوال الشحاذين كثيرًا عن ذي قبل، مستعرضًا موقفًا لأحد الشحاذين إذ دخل على "حفني ناصف" –الكاتب المصري- يومًا في مكتبه بوزارة المعارف يستجديه بهذين البيتين: جارت علي الليالي في تصرفها وأغرقتني في لج من المحن فيا عميد القوافي أنت معتصميم أقل عثاري وكن عوني على الزمن؛ فأجابه "حفني" على الفور: يكاد شعرك يبكيني ويضحكني ولم أزل ساخرًا من ظنك الحسن/ فاقبل عطائي بلا شكر ولا غصب/ فليس والله في جيبي سوى شلن. حقًا أهل الكدية لهم طرائف وعجائب ترسم الابتسامة على اثغارنا أحيانًا، لكن هذا لا ينفي أنهم محتالون ويرتكبون الكثير من الأعمال التي يشمئز منها الكثيرون، بل لم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل وصل الأمر إلى تهديد السياحة في مصر، وهو ما أثاره «عبد الفتاح» في دراسته، مستعرضًا التقرير الذي نشرته صحيفة الديلي ميل البريطانية، إثر زيارة الأميرة لديانا لمصر، إذ عبرت عن استياءها من كم المستولين المنتشرين في منطقة الأهرامات. من المسكنة إلى الحدة.. ومن الشعر إلى القصة القصيرة الواقعية جدًا تعكس الدرسات التي تناولت أدب الكدية والشحاذة في مجتمعاتنا العربية وبخاصة المجتمع المصري، وكذلك الدراسات الاجتماعية في هذا الحقل الاجتماعي –على قلتها- تغيرات ثقافية عديدة، وربما لا يحتاج الأمر لدراسة شاقة لنتلمس تغيرات السلوك الثقافي الاجتماعي. يتذكر جميعنا ما كان ينادي به الشحاذون قبل عقود في شوارع مصر، كلماتهم المسجوعة الشهيرة "حسنة قليلة تمنع بلاوي كتيرة" وغيرها الكثير من العبارات التي حفظها المصريون عن ظهر قلب واستخدمها السينمائيون والمسرحيون حينما تناولوا الشحاذين في أعمالهم الفنية سواء بشكل ساخر أو في معالجة هذه الظاهرة الاجتماعية. وبالتدريج ومع قسوة الواقع واختفاء الكثير من العبارات الودودة في التحية والحديث بين أفراد المجتمع وهو ما كان يصفه البعص بالتحضر والبعض ب"النفاق الاجتماعي"، ومع إزاحة العبارات الرقيقة لصالح العبارات الحادة المباشرة، اختلفت لغة "الشحاتين" وطرائقم في طلب المال والمسألة كثيرًا. صار الطلب مباشرًا، حادًا، وصار رد الفعل عنيفًا في بعض الأحيان، إذ لا يتوقف الأمر عند إعراض الشحاذ عن من يتجاهله ومبادلته التجاهل، بل يصل الأمر أحيانًا إلى السب والدعاء بالخسران والمصائب لمن يتجاهله أو لا يلبي طلبه، ومن الممكن أن يعترض شحاذ على قلة النقود التي يتصدق بها البعض. من الشحاذين من يستوقفك بكامل هندامه ليبدأ في سرد قصة قصيرة مفادها أنه ذا مكانة رفيعة من قرية بعيدة وأنه أتى لقضاء واجب ما لكن تعرض للسرقة وضياع ماله، ولا يستطيع العودة إلى قريته تلك، وفي ذلك يتفننون في جعل القصة مشوقة ومختلفة في كل مرة، سواء من ناحية حسبه ونسبه، أو سبب الزيارة إلى القاهرة، أو الطريقة التي اضطرته لسؤالك عن المال. بالرجوع إلى دراسة «أدب الكدية في العصر العباسي» ندرك أن تلك الحيلة ليست بالجديدة، وإنما هي تعود لعصور سحيقة، فيشير أحمد الحسين مؤلف الكتاب إلى أن "المكدي يتقلَّب في ضروب الانتساب، مدعياً أنَّه من سلالة المجد والشرف، وذلك حسبما يقتضيه موقف الاستجداء" إلا أن الدراسة تلك نلمح فيها أن «المقامات» كانت هي الشكل الأدبي الأمثل الذي استخدمه الشحاذون آنذاك، أما الآن ومع طبيعة العصر، صارت القصة القصيرة جدًا هي الشكل الأمثل، بل يجب أن تكون واقعية جدًا من حيث الأحداث والنتائج، ولا يميل قائلها إلى المبالغة لفظًا أو معنى، بل يحاول قدر الإمكان أن يبدو حقيقيًا. بجانب ما برع فيه أهل الكدية والشحاذة من أدب وشعر وحيل وتمثيل، إلا أنه في الأصل كيان يهدد المنظومة الاجتماعية في الدولة، لذا أصدرت الدولة قرارًا في أبريل 1882 بمنع الشحاذة نهائيًا في شوارع العاصمة، وهو ما لم يطبق فعليًا حتى الآن، وليس هذا مقصدنا من التقرير، بل المقصد رصد التغيرات الاجتماعية من خلال فئة وجماعة من المواطنين طالما كان لها أسلوبها على مدى التاريخ، واختلاف الأساليب والسلوكيات تلك، بالتأكيد يعكس تغيرًا وتحولًا اجتماعيًا من السلام والألفة والاحتواء إلى العنف والقسوة.