لم تكن الحرب الباردة، باردة حقاً كما يدعون بل كانت حرباً مستعرة طويلة وقاسية؛ نشرت أهوالها فى ربوع العالم المختلفة، وخاصة أوربا الشرقية وجنوب أسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية، وإمتدت فى فترة منتصف الأربعينات وحتى أوائل التسعينات بشراسة ضارية، خاض فيها العديد من الدول التى تخضع بالولاء لقطبى الصراع: الولاياتالمتحدةالأمريكية، والإتحاد السوفيتى.. العديد من الحروب والمواجهات العسكرية المباشرة مثل: الحرب الكورية، وحرب فيتنام وحرب أفغانستان، بجانب حدوث العديد من الأزمات الخطيرة: كأزمة الصواريخ الكوبيه وأزمة برلين، وبزغ نجم العديد من التنظيمات الدموية والشخصيات القيادية التى ساهمت فى تطور الأحداث وزيادة اللهيب، ولكنى أجد أن أنسب نقطة للحديث عن هذه الفترة الطويلة المعقدة هى: مبدأ ترومان الذى أطلقه رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية هارى ترومان عام 1947م، والذي ينص على: أن الولاياتالمتحدة ستبقى ملتزمة بمنع المزيد من التوسع الشيوعي. ولنأخذ تشيلى نموذجاً، تلك الدولة الساحلية الموجودة فى غرب أمريكا الجنوبية، والتى نالت استقلالها من الحكم الأسبانى عام 1818م، وأنشئت أول حكومة ديمقراطية بها فى 1861م وكان ميلاد الدستور كنظام جمهورى 1925م، وبرغم بعض المناوشات بين تشيلى وجيرانها وبين المؤسسات المدنية ومؤسسة الجيش فقد ظلت ديمقراطية مستقلة حتى عام 1970م عندما وصل الرئيس الإشتراكى سلفادور أليندى للحكم عبر إقتراع ديمقراطى نزيه، وبدأت تلك البلاد فى التحول بشكل خطير للنظام الإشتراكى، والتقارب مع الإتحاد السوفيتى، وزاد حدة المنحنى: الإصلاحات الإقتصادية التى قام بها أليندى؛ وخصوصا تأميم شركة الإتصالات التى كانت تابعة لشركة ITT الأمريكية، وتأميم مناجم النحاس التى كانت تديرها أيضا شركات أمريكية، فى الوقت الذى توطدت فيه علاقة النظام فى تشيلى بالرئيس فيدل كاسترو -حاكم كوبا- الذى وجه لسلفادور العديد من النصائح حول استخدام الشدة فى قمع المعارضة والسيطرة على مراكز القوة ورجال الأعمال، وساعده فى تدريب جيش صغير يتولى حمايته غير تابع للمؤسسة العسكرية والأمنية فى الدولة.. ألا إن الرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون، ووكالة المخابرات الامريكية((CIA كانوا قد أعدوا العدة لتغيير الأمور، ففى خلال سنوات سابقة قدمت أمريكا العديد من المنح لنيل درجة الدكتوراه فى الإقتصاد من جامعه شيكاجو، لمجموعة كبيرة من الطلاب والباحثين الذين شكلوا نواة حركة التغيير الإقتصادى والتبعية القادمة، وعلى الجانب الأخر حاولت فى حركة استباقية دعم المرشح المنافس لأليندى فى الانتخابات، ولكنها فشلت؛ فبدأت بخفض المعونة والضغط على البنك الدولى لعدم إقراض الحكومة المنتخبة، أو دعم أى مشروعات إقتصادية فى تشيلى كما وجهت ملايين الدولارات لدعم التظاهر والإضرابات التى كان أبرزها إضراب عمال النقل الذى تسبب فى شل حركة البلاد، وأدى لإفراغ المتاجر من السلع والبضائع وتجويع تلك البلاد التى كانت توزع فى بداية حكم أليندى كوب من الحليب يومياً على كل طلاب التعليم الأساسى، وكان ذلك كله تمهيداً للإنقلاب العسكرى الذى قام به الجنرال أوغستو بينوشيه الذى جاء راكباً الدبابة (بالمعنى الحرفى) حيث كلف سلاح الطيران بمهاجمه القصر الرئاسى وجنود المشاة بمحاصرة أليندى فى قصره، ولكنه رفض الاستسلام مع العديد من أفراد قوة التأمين الخاصة به، ودارت بينهم معركة غير متكافئه، انتهت بإنتحار أليندى رافضاً تسليم نفسه بعد خطابه الأخير الذى بثه قائلا : "بالتأكيد ستكون هذه فرصتي الأخيرة للحديث معكم؛ فالقوات الجوية قصفت أبراج الراديو، لم يعد لدي شيئاً أقوله للعمال سوى أنني لن أستسلم في هذا المنعطف التاريخي، سأدفع حياتي ثمناً لولائي للشعب، وأقول له أني على تمام الثقة أن البذور التي زرعناها في ضمائر الآلاف والآلاف من المواطنين التشيليين، لن تذهب هباءً. في هذه اللحظة الحاسمة، اللحظة الأخيرة التي سأتمكن فيها من التحدث معكم، آمل أن تكونوا قد استفدتم من الدرس، رأس المال الأجنبي والإمبريالية جنباً إلى جنب مهدا الطريق كي تحطم القوات المسلحة تقاليدها، أتوجه بالتحية إلى هؤلاء الذين استمروا في العمل في الأيام الماضية ضد الفتنة التي ترعاها الفئات الطبقية التي تدافع عن الامتيازات التي يضمنها المجتمع الرأسمالي للأقلية. عاشت تشيلي، عاش الشعب، عاش العمال" واستمرت بعد ذلك المعركة ضد الموالين للسلطة المنتخبة، وقتل العديد منهم والقبض على الباقين، بما فيهم العديد من المثقفين والسياسين والفنانين وغيرهم، وحبسهم وتعذيبهم فى إستاد سانتياجو الدولى، ومنهم المطرب الثورى سلفادور هارو الذى دقوا أصابعه حتى لا يستطيع العزف، ثم قتلوه ولكنه ترك أغنية أخيرة يقول فيها: " كم هو قاسى وجه الفاشية حيث الدم يساوى الأوسمة كم هو قاسى الغناء عندما يعبر عن الذعر والصمت والدموع " واستمر مسلسل القتل والتعذيب والاعتقال لمدة ثلاث سنوات، ليصل إجمالى الضحايا لأكثر من مئة ألف شخص بعضهم اختفى تماماً ولم يعرف مصيره.. وما أن استقرت الأمور لأوغستو بينوشيه، نصب نفسه حاكماً دكتاتورياً، وبدء طلاب جامعة شيكاجو من حاملى الدكتوراة، والذين كانوا على ثقة وثيقة بعالم الإقتصاد الأمريكى ميلتون فريدمان، الذى كان مستشار نيكسون الإقتصادى، وحصل على جائزة نوبل فى الإقتصاد 1976م، فى وضع سياسة جديدة للبلاد متماشية مع إقتصاديات السوق الحر، وآليات الإنفتاح فبدأت عملية خصخصة الشركات، وإلغاء الحد الأدنى من الأجور، وتعطيل قوانين حقوق العمال، وخفض الضرائب على الثروات والأرباح؛ مما شجع المستثمرين، ورفع نسبة النمو الى 35%، وقد كانت فى وقتها أعلى نسبة فى العالم، ولكنها كانت تصب فى مصلحة فئة واحدة من رجال الأعمال، وجنرالات الجيش، والمستثمرين الأجانب؛ فزادت معدلات الفقر وأصبح الحليب الذى كان يصرف مجاناً من السلع التى تعبر عن رفاهية مشتريها.. ويمكننا أن نذكر ن العيدي من الكتاب المهمين فى أمريكا اللاتنيية، قد أرخوا لتلك الفترة من خلال أعمالهم: كرواية خريف البرطريرك لاركيز، وبيت الأشباح لإيزابيل الليندى، ولا سيما أن أمريكا اللاتينية شهدت فى العديد من بلادها، التى لها علاقات قوية بروسيا، أو لها ميول إشتراكية كأراجواى وبارجواى وبزليفيا والبرازيل والأرجنيتن، انقلابات عسكرية مشابهة.