تحذير إلى كل طاغية وديكتاتور: لا تتركوا مقاعد الحكم أبداً... فليكن الإجراء الديمقراطى الوحيد الذى تقبلون به هو أن ينتقل الحكم منكم بشكل هادئ بواسطة التدخل الإلهى وحده. لا تسلموا الحكم إلا لعزرائيل. وقد أعذر من أنذر! ومثال المسكين أوجستو بينوشيه فى تشيلى لأوضح من أى مثال، فبعد انتهاء فترة الحكم الممتدة للجنرال العجوز ، توجه الى لندن لتلقى العلاج وهناك فوجئ بمعاملة تشبه معاملة المشبوهين المنبوذين إذ تصاعدت من كل جانب الدعوة لمحاكمته على ما اقترفت يداه. لقد أنقذ الرجل بلاده من خطر الشيوعية، وزغردت عواصم الغرب، واحتفلت واشنطن أيما احتفال بهذا المخلِّص العظيم، ولكنه أصبح فجأة يواجه وحده نتائج شجاعته، وقد أدارت تلك العواصم ظهورها إليه، وخصوصاً واشنطن. ومصيبته لا تقل عن مصيبة الشاه الإيراني، ونورييجا البنمي، وماركوس الفيليبيني. فالرجل مثلهم، كان رجل أمريكا المخلص، الليبيرالى الحر الذى رفس الشيوعية بلا رجعة فى بلاده، تعاون مقدس مع رسل الخلاص ماركة CIA، لقد أدى وظيفته، وشأنه شأن المتقاعدين، الذين لا تهتم بهم مؤسساتهم، أصبح بلا فائدة، ولا مانع من أن يقبض عليه، أو أن يطارد كالفأر المذعور فى أركان الكرة الأرضية حتى وهو فى سن الخامسة والثمانين. كانت تشيلي، كما يقال، جنة الديمقراطية فى أمريكا اللاتينية، ففى تلك القارة التى اشتهرت بانقلابات الجنرالات، استقر النظام الديمقراطى لمدة تتجاوز أربعين عاماً حتى انقلاب الجنرال بينوشيه ففى الرابع من سبتمبر 1970 نجح الاشتراكى سلفادور الليندى فى الوصول الى رئاسة تشيلى عن طريق صناديق الاقتراع، حيث حصل على نحو 36 فى المائة من الأصوات، وفى تلك الأثناء أرسل السفير الأمريكى فى سانتياجو أدوارد كورى تقريراً تضمن أن تشيلى صوّتت بهدوء لتحصل على دولة ماركسية / لينينية، وأنها بذلك تكون أول دولة فى العالم تنفذ هذا الاختيار بشكل حر. ولم يرَ هذا السفير آنذاك أن القوات المسلحة التى اغتالت الديمقراطية فى تشيلى فيما بعد ستتدخل بما يهدد بحرب أهلية، أو أن هناك معجزة ستقاوم هذا الانتصار. كتب ذلك السفير: «إنه من المحزن أن تشيلى أخذت طريق الشيوعية ولكن هذه هى الحقيقة الثابتة، وأن ذلك سيترك تأثيراً عميقاً فى أمريكا اللاتينية وما وراءها، لقد تلقينا هزيمة ساحقة ستترتب عليها نتائج محلية ودولية»... كانت مناحة أمريكية طويلة فى شكل تقرير ديبلوماسي. وفى كتابه «سنوات البيت الأبيض» علّق كيسنجر على ذلك بأن ما حدث فى تشيلى كان مواكباً لرفض القاهرة وموسكو للاحتجاج الأمريكى فى شأن انتهاكات وقف إطلاق النار، يعنى بذلك استمرار مصر فى بناء قواعد صواريخ سام المضادة للطائرات، وتخوف الأردن من تحرك محتمل للقوات العراقية ضد الملك حسين فى ظل أزمته مع المقاومة الفلسطينية، وتحرك الأسطول السوفيتى تجاه كوبا ، وفى التوقيت نفسه كان رجال المقاومة الفلسطينية يمرون فى الأردن بما أطلق عليه «أيلول الأسود». يقول كيسنجر باختصار: «إن انتخاب الليندى كان تحدياً لمصالحنا القومية، وكان صعباً علينا أن نقبل بوجود الدولة الشيوعية الثانية فى منطقتنا بعد أن كانت الأولى هى كوبا. بحثت لجنة «تشرش» فى عام 1975 عن دور الاستخبارات المركزية الأمريكية فى تشيلي، ويقول كيسنجر: إن أمريكا كانت تدفع الملايين لخصوم الليندى فى الانتخابات، إذ دفعت نحو 3 ملايين دولار لخصومه فى انتخابات 1964 التى خسرها، وآلافا غيرها فى انتخابات البرلمان التشيلى للغرض نفسه، وبلغت المساعدات الرسمية التى قدمتها أمريكا لهذا البلد ما يزيد على بليون دولار لدعم القوى المضادة لسلفادور الليندي. سقط سلفادور فى 11 أيلول سبتمبر 1973، بعد تولى منصبه بثلاثة أعوام. فى صباح ذلك اليوم قامت القوات الجوية التشيلية بقصف قصر الرئاسة، واقتحمت قوات الجيش بقيادة الجنرال أوجستو بينوشيه القصر نفسه عند الظهيرة، حيث تم اغتيال الرئيس المنتخب، ويقول كيسنجر إن الليندى انتحر برشاش كان كاسترو أهداه اياه! ولكنه ليس متأكداً من ذلك. وحكم بينوشيه بعنف تمثّل فى قتل جماعى واختطاف وتعذيب عانى منه ايضاً بعض الأمريكيين. وأمام اللجنة التى شكّلها الكونجرس برئاسة السيناتور إدوارد كيندى تقدم صحفيان إمريكيان بشهادة عما حدث من فواجع فى الاستاد الرياضى فى سانتياجو، مما جعل السيناتور كيندى يأسف لسياسة الصمت التى اتبعتها إدارة نيكسون حيال تلك الانتهاكات البشعة لحقوق الإنسان فى تشيلي. حكم الجنرال بينوشيه تشيلى بالحديد والنار لمدة 17 عاماً، الى أن سلم الحكم طوعاً عام 1990 الى حكومة مدنية ، دون أن ينسى أن يحصن نفسه كنائب فى البرلمان التشيلى مدى الحياة، كى يتمتع بالحصانة التى تحميه من أى مطالبة قانونية يتقدم بها أسر ضحاياه. ولمدة ثمانية أعوام بعد تخليه عن السلطة عاش الرجل فى أمان وسلام، بل كان يتردد على لندن للعلاج بشكل منتظم، حتى فوجئ بصدور أمر بالقبض عليه عندما كان يتلقى علاجه فى أحد مستشفيات لندن، وذلك بناء على طلب السلطات الاسبانية لتسليمه لمحاكمته على جرائمه التى ارتكبها فى أثناء فترة حكمه ضد مواطنين إسبانيين. فى البداية أصدرت المحكمة الإنجليزية حكمها بأن الجنرال العجوز يتمتع بالحصانة القضائية لكونه رئيس جمهورية سابقا، إلا أن اللجنة القضائية لمجلس اللوردات نقضت هذا الحكم، وقررت أنه يمكن تسليمه إلى إسبانيا. وبدأت دول أخرى تعد طلبات لتسليمه، مثل فرنسا وبلجيكا وألمانيا والسويد وإيطاليا ولوكسمبورج .. انقلبت كل الدنيا عليه فجأة. إن المرء ليرثى لحال هؤلاء السياسيين، ويأمل أن يراعى المجتمع الغربى المتحضر قاعدة «ارحموا عزيز قوم ذل». فلقد كان على أى حال رئيساً للجمهورية، له الصولة والجولة والمهابة والاحترام، بل إنه كان رجلكم الخاص.. ثم لماذا هو بالذات؟ فلقد سبق أن ادين أرييل شارون ألف مرة فى موضوع شهداء صبرا وشاتيلا وغيرهم، كما أن جونسون، أصدر عشرات الأوامر لقتل وتدمير أهل فيتنام!!. وغيرهم كثيرون .. لذلك يبدو أنه يجب أن يتكاتف الطغاة، و أن يرتفع نداء «يا طغاة العالم اتحدوا»، وأن يشكلوا نقابة أو رابطة تحمى مصالحهم حتى لا تتكرر هذه المهازل، لقد انكسرت قلوب الاتقياء وهم يشاهدون شاه إيران، وهو فى مرضه الأخير يتسول عاصمة كى تقبله لاجئاً. لقد انتقد كيسنجر الحكيم موقف حكومته فى تخليها عن رجلها الأمين الذى انتهى إلى هذا الوضع المذل المهين، كذلك شاهد العالم ديكتاتور بنما السابق وضباط مكافحة المخدرات الامريكيين يسحبونه وهو فى قيده الحديدى، إلى السجن، ذلك الرجل الجبار الذى كان يهز الدنيا بخطاباته وهو يدق بقبضته ويصرخ بأعلى صوت، هل ينتهى به الأمر إلى أن يسجن فى سجون البلد التى رعته وروته ونفخت فيه من أموالها السرية حتى أصبح ما كان. ثم ما هذا الذى حدث للزعيم ماركوس وزوجته البديعة التى جمعت أحذية تكفى لكل حفاة العالم؟!. لهفى عليك يا بينوشيه مما عانيته من برودة لندن، وبرودة القلوب القاسية، حسبك أنك خدمت بإخلاص وإمانة، إلا أن أسيادك لم يكونوا على المستوى نفسه من الوفاء والإخلاص. كم خشيت عليك وقتها من تلك الكوابيس التى لا بد أنها حاصرتك ، فمن المؤكد أن شبح سلفادور الليندى كان يظهر لك مسربلاً فى دمائه، وهو يقود آلاف الاشباح والعفاريت من اليساريين وأصحاب الرأى والفكر الذين قتلتهم وشردت أسرهم، ولا بد أن الملاعين كانوا يضحكون عليك ساخرين. لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق