في عام 1970 اجريت انتخابات ديموقراطية في تشيلي وتم انتخاب الدكتور سلفادور الليندي ليصبح اول رئيس اشتراكي في امريكا اللاتينية. ورغم ان فلسفة الحكم عند الرئيس الجديد كانت هي تغيير المجتمع من خلال نشر الديموقراطية في كل القطاعات والمؤسسات ورفض اي محاولة للجوء للعنف او الحكم الديكتاتوري الا ان الولاياتالمتحدةالامريكية ناصبته العداء منذ اللحظة الاولي. السبب في ذلك ان الدكتور الليندي كان معارضاً شرساً للاحتكارات الامريكية وكان ولاؤه الوحيد للشعب الذي انتخبه لدرجة ان رفاقه اليساريين وقفوا ضده ايضاً لانه رفض افكارهم الثورية المتطرفة التي كانت سائدة في ذلك الحين. لم يعترف الامريكيون بالخيار الديموقراطي لشعب تشيلي وظلوا يتربصون بالرئيس الجديد حتي تمكنت المخابرات الامريكية من تدبير انقلاب عسكري ضده بقيادة الجنرال أوجوستو بينوشيه الذي كان قائداً للجيش وكان الليندي يعتبره ابنا له مما دفع الكثيرين لتشبيهه ببروتس الذي خان الامبراطور الروماني يوليوس قيصر ووجه له الطعنة القاتلة رغم انه كان ربيبه وأقرب قادته إليه. ومن المصادفات الغريبة ان هذا الانقلاب الذي دبرته الولاياتالمتحدة حدث يوم 11 سبتمبر عام 1973 وهو نفس اليوم الذي تعرضت فيه نيويوركوواشنطن لاكبر هجوم في تاريخ امريكا بعد 28 عامًا وكأنما هي عدالة السماء. اسفر الانقلاب عن اغتيال الرئيس المنتخب الدكتور الليندي وقال البعض انه انتحر لفرط احساسه بالغدر في قصر الرئاسة بالعاصمة سانتياجو. وتولي السلطة الجنرال الخائن بينوشيه الذي اثبتت الايام انه كان دكتاتورا عميلا لامريكا ولا يعنيه سوي خدمة مصالحها الاستعمارية. هذا الموقف الامريكي المشين من الديموقراطية الوليدة في تشيلي جاء في اطار مشروع سياسي اقتصادي استعماري وضعه داهية السياسة الامريكية هنري كيسنجر للسيطرة علي العالم. وعندما سئل كسينجر عن تفسيره لتورط واشنطن في المؤامرة ضد رئيس تشيلي المنتخب رغم ما تتشدق به من شعارات الديموقراطية قال بصراحة هي أقرب للوقاحة، ان امريكا لا يمكن ان تسمح لشعب لا يقدر المسئولية بان يمارس الديموقراطية بطريقة تضر بمصالحها الاستراتيجية. هذا الرجل، كسينجر، كان هو نفسه صاحب المخطط الامريكي للسيطرة علي العالم العربي والشرق الاوسط والذي كان شعار الديموقراطية احد ادواته التي خدع بريقها الزائف الكثيرين في منطقتنا واكتشفوا في النهاية انه كان مجرد "بريق امريكاني" من النوع الذي يصدره فلاش كاميرا ليس بها فيلم اساسا. وقد اثار المفكر الامريكي الشهير ناعوم تشومسكي اشكالية امريكا والديموقراطية في محاضرته قبل ايام بالجامعة الامريكية في القاهرة عندما اكد ان الولاياتالمتحدة تخشي قيام ديموقراطية حقيقية في منطقة العالم العربي. واشار تشومسكي الي دراسات عديدة اجرتها وكالات امريكية واجمعت كلها علي ان واشنطن لا تريد ان تعبر السياسات في الدول العربية كمصر وغيرها عن الرأي العام لشعوب المنطقة لما سيمثله ذلك من تهديد خطير للمصالح الامريكية. فانتشار الديموقراطية يعني بالضرورة استقلالية القرار وستكون الكلمة للشعوب التي ستغير الموقف من امريكا واسرائيل ولن تعتبر ايران مصدراً للخطر وستسعي لحماية ثرواتها من الاحتكارات الامريكية. وضرب تشومسكي مثلا لموقف امريكا من الديموقراطية العربية بالانتخابات الفلسطينية عام 2006 والتي اسفرت عن فوز حركة حماس التي لا تعترف باسرائيل وترفض معاهدات السلام رغم المحاولات الامريكية والاسرائيلية لدعم المرشحين المنافسين. ورغم وصف العديد من المراقبين لهذه الانتخابات الفلسطينية بانها اول انتخابات نزيهة في العالم العربي الا ان امريكا واسرائيل والاتحاد الاوروبي رفضوا نتائجها لانها جاءت ضد توقعاتهم وعمدوا الي معاقبة الشعب الفلسطيني لانه عبر عن رأيه وليس عن رأي واشنطن التي لا تعتبر هذه ديموقراطية. هكذا، فالمسألة، من وجهة نظر واشنطن، هي المصالح الأمريكية..ولتذهب الحرية والديموقراطية إلي الجحيم!!