من المفارقات الجديرة بالتأمل، أن الرئيس الأميركي الذي حصل على جائزة نوبل للسلام، وبدأ حكمه بخطاب يدعو فيه إلى فتح صفحة جديدة مع العالم الإسلامي بعد أن تولى الحكم وبلاده متورطة عسكريا في بلدين مسلمين هو نفسه الرئيس الذي لم يتورع عن توسيع نطاق الدور العسكري ليشمل بلدين إضافيين! ففضلاً عن أفغانستان والعراق اللذين تسلم أوباما الحكم وبلاده متورطة فيهما حتى أذنيها، صارت الولاياتالمتحدةالأمريكية بعد توليه، متورطة عسكرياً في ليبيا واليمن أيضاً. وقد روجت إدارة أوباما في الداخل الأميركي للتدخل في ليبيا، باعتباره عملاً دولياً لإنقاذ المواطنين في ليبيا من المواجهات الدامية مع النظام، أي أنه تدخل عسكري "لأغراض إنسانية". وقتها قالت الإدارة إن المهمة الرئيسية هي فرض حظر جوي، بل إن أوباما صرح في ذلك الوقت بأن "تغيير النظام" الليبى سيكون خياراً خاطئاً إذا ما تم تبنيه. لكن في غضون أسابيع قليلة صار الهدف، الذي لا تنكره أميركا وحلفاؤها، هو الإطاحة بنظام القذافي. بل انفضحت حكاية التدخل العسكري الإنساني، فقد تحولت الساحة في دول عربية أخرى إلى مواجهات دامية أيضاً. وهو ما فرض على أميركا وحلفائها الذين "هبوا لنجدة الليبيين"، أن يشرحوا لماذا يا ترى لم يهبوا لنجدة غيرهم ممن يتعرضون للتنكيل في بلدان أخرى؟ لكن ما هي إلا أسابيع قليلة أخرى، حتى أشارت الوثائق الأميركية التي كشفت عنها ويكيليكس، إلى ما يمكن أن يكون العامل الرئيسي وراء تلك "الهبة لإنقاذ الليبيين". فقد تبين أن القذافي بعد أن تنازل عن برنامج الأسلحة الليبية، كان يتوقع أن يعامل بشكل أفضل بكثير مما لقيه من الغرب. وكان ذلك هو بداية تحوله في السنوات الأخيرة، إلى "عقبة في وجه المصالح الأميركية"، كما جاء في الوثائق. ففي برقية بعثت بها من ليبيا وكشفت عنها ويكيليكس، اعتبرت السفارة الأميركية في طرابلس أن هناك "دلائل متزايدة تشير لسيطرة ليبيا على مواردها". وقد نقلت البرقية عن القذافي، أنه قال في إحدى خطبه إن شركات البترول يسيطر عليها الأجانب وحصدوا من ورائها الملايين، وإنه قد آن الأوان لأن يحل محلهم الليبيون ليحققوا تلك المكاسب لأنفسهم. وتفسر تلك البرقية عدداً من الوقائع التي جرت بعد ذلك. فمعرفة ما جاء في تلك البرقية، يجعلنا ندرك مغزى أن يرسل أوباما قبل اتخاذ قرار التدخل في ليبيا، رجاله من المخابرات والوحدات الخاصة للتعرف إلى الواقع على الأرض، وإلى هوية الثائرين وتوجهاتهم السياسية وموقفهم إزاء الولاياتالمتحدة ومصالحها في ليبيا. بعبارة أخرى، تتدخل الولاياتالمتحدة الأميركية عسكرياً في ليبيا، أملاً في الإبقاء على شروط التعاقد بين شركات البترول والنظام كما هي، تحت حكم نظام جديد، أياً كان نوعه، بعد أن كان القذافي قد تحدث علناً عن تغييرها. وتدخل الولاياتالمتحدة العسكرى في الخارج من أجل حماية مصالح شركات أميركية، ليس جديدا. فهو بالضبط ما جرى في تشيلي في السبعينات. فحين فاز سلفادور الليندي هناك في انتخابات حرة عام 1970، وشرع في تأميم صناعة النحاس، بل والاتصالات التي كانت تسيطر عليها شركة "إيه تى أند تى" الأميركية الشهيرة، عقدت الولاياتالمتحدة العزم على الإطاحة بالليندي، فدفعت بعناصر من المخابرات المركزية إلى تشيلي، كانت مهمتها الرئيسية إحداث الفوضى والاضطرابات حتى تصبح البلاد عصية على الحكم، الأمر الذي يصبح مبرراً لحدوث انقلاب عسكري ينهي حكم الرئيس المنتخب. وقد حدث بالفعل انقلاب عسكري بدعم أميركي كامل، تولى بينوشيه بمقتضاه الحكم، وظل أبناء تشيلي يعانون من القمع الدموي لنظام بينوشيه سنوات طويلة. لكن التنكيل الذي تعرض له التشيليون لم يهز للولايات المتحدة طرفا، فالدكتاتورية التي أسسها بينوشيه، كانت موالية لأميركا ولا تقف ضد مصالح شركاتها. أما في حالة اليمن، فقد نشرت صحيفتا "وول ستريت جورنال" و"واشنطن بوست" تقارير تؤكد أن إدارة أوباما تخطط لاستغلال الفوضى الناشئة عن الحرب الأهلية في اليمن، لتتوسع في نطاق عملياتها العسكرية، والتي تعتمد على القصف الجوي، ويروح ضحيتها عشرات المدنيين في كل مرة. والجدير بالذكر هنا أن أوباما الذي أولى عناية فائقة للتفاعل الإيجابي مع العالم الإسلامي في بداية حكمه، وتحسين صورة بلاده التي دمرها بوش، لم يعد يكترث على ما يبدو بموقف شعوب العالم الإسلامي من بلاده. ففي آخر استطلاعات الرأي التي أجريت في مصر مثلاً، لم تحظ الولاياتالمتحدة بشعبية إلا لدى 20% فقط من المستطلعة آراؤهم. وفي استطلاعات للرأي أجريت بالتزامن في أكثر من بلد عربي، تبين أن الأغلبية في أكثر من بلد تعتبر الولاياتالمتحدة الأميركية وإسرائيل الخطر الأول على السلام العالمي. والسؤال المهم هنا، بالطبع هو: ما سبب عدم الاكتراث هذا؟ والإجابة عندي أنه مع اندلاع الثورات العربية في أكثر من دولة على نحو غير خريطة المنطقة، أدرك أوباما أن الرأي العام العربي إذا ما صار عاملا حاكما في صنع السياسة، فإن الولاياتالمتحدة الأميركية لن تفقد فقط سيطرتها على المنطقة، وإنما قد "تجد نفسها هي وحلفاءها مطرودين من المنطقة أصلاً"، على حد تعبير الكاتب الأميركي الكبير ناعوم تشومسكي. لكن المشكلة في عدم الاكتراث هذا، هي أن خبرة الولاياتالمتحدة الطويلة في أميركا اللاتينية، بل والمعاصرة في عالمنا العربي، تؤكد أن الوقوف ضد مصلحة الشعوب يستحيل أن يدوم للأبد. فأميركا اللاتينية، التي تصفها أميركا بفجاجة بأنها "الفناء الخلفي" لها، قد انعتق أغلب شعوبها من سيطرة الولاياتالمتحدة على مقدراتها. نقلا عن البيان