عبر تاريخنا الحديث والمعاصر كان هناك خطان متوازيان داخل الأزهر الشريف! خط تنويري حداثي وسطي، وآخر رجعي متزمت .. وتكفيري أحيانا! وأعني بالتكفيري هنا تكفير المفكرين وليس تكفير الدواعش الذي رفضه مؤخرا! وكان المجتمع هو ما يرجح أحدهما على الآخر، فيسود التنوير وتلمع رموزه حينا، ويسود التزمت وتتضخم عناصره حينا! لأن الأزهر مؤسسة تنتمي لمجتمع، تتعافى بعافيته وتعتل بعلته! الشيخ الذي شجع الطفل "طه حسين" على التعلم في صباه كان قاضيا شرعيا أزهريا! والشيوخ الذين اتهموه "بالتعدي على دين الدولة" بعد ذلك في 1926م مثل الشيخين "أبو الفضل الجيزاوي" و"محمد الخضري" وغيرهما .. كانوا أزهريين! الشيخ الجليل والقاضي الشرعي "علي عبد الرازق"، والذي كتب كتابا مرجعيا في مجاله، هو "الإسلام وأصول الحكم"، وفند به دعاوى دولة الخلافة عام 1925م، كان أزهريا! وهيئة كبار العلماء التي جردته من درجته العلمية، وعزلته من القضاء بسبب كتابه هذا، كانت أزهرية بالطبع! كان الشيخ "محمد عبده" رائدا التنوير وتجديد الخطاب الديني أزهريا، ومفتيا للديار المصرية، وكان من اتهموه في دينه بسبب ميوله التنويرية أزهريين بدورهم! وكان الشيخان "محمود شلتوت" و"عبد الحليم محمود" شيخان للأزهر، وكان من اتهموهما بالتفريط والابتداع لتصوفهما أزهريين بدورهم! ولماذا نذهب للتاريخ والتباين أمامنا ظاهر وصارخ: الشيخ الجليل أحمد الطيب أزهري، والشيخ القطري الخائن "يوسف القرضاوي" أزهري! في تلك الوقائع كان الأزهر في حالة صراع بين الخطين بداخله .. بين أزهرنا التنويري الوسطي .. وأزهرهم الرجعي، أقول "أزهرهم" لأن التطرف الديني تدعم بالإخوان والسلفيين وغيرهم ولم يبدأ معهم، ولكن جذوره ضاربة في القدم! حتى على مستوى الوطنية المصرية، فالشيوخ التسعة الذين ارتدوا وشاح العلم الفرنسي وشكلوا ديوانا تحكم باسمه الحملة الفرنسية كانوا أزهريين! والشيوخ الستة الذين قادوا ثورة القاهرة ضد الحملة الفرنسية في 21 أكتوبر 1798م كانوا كذلك أزهريين، ودفعوا حياتهم عندما أعدموا ثمنا لبطولتهم وصولتهم ضد المحتل! كان الأزهر المهادن للمحتل في حالة صراع مع الأزهر الذي يقود المقاومة .. من جديد .. أزهرهم مقابل أزهرنا! أما مناهج الأزهر، فقد كانت الآراء المتطرفة موجودا دائما، ولكنها كانت تعرض – في عصور التنوير – بأسلوب تعددي نقدي يظهر تطرفها! وكانت الروايات الأسطورية (لحم الجن وخلافه) موجودة دائما، لكن المعلم كان يظهر عوارها! ثم جاء تحالف الدولة مع تيارات الظلام منذ السبعينيات، فاخترقت تلك التيارات الأزهر كما اخترقت غيره، وصار المعلم يعرض التطرف محبذا، ويعرض الرواية الأسطورية مزكيا! هذا هو الخلل. نعم إصلاح المناهج مطلوب، ولكن تطهير كوادر المعلمين – ومن باب أولى "الشيخ المتلون" المسئول عنهم كوكيل للأزهر – مطلوب كأولوية مقدمة! فالمعلم يمكنه تصحيح عوار المنهج، كما يمكنه الانحراف بمنهج خالٍ من العوار وبعد، فقد نشأت في بيت أزهري، لأبٍ حاصل على "العالمية وإجازة التدريس" في اللغة العربية من جامعة الأزهر، وكنت في التاسعة من عمري يوم سمح لي والدي بحضور جلسات حواره المسائية مع زملائه! حضرتها مستمعا بطبيعة عمري وقتذاك، وكان الحوار يتناول أمور الدين والدنيا والسياسة، وكان عددهم قرابة العشرة من شيوخ الأزهر الشريف، ولم يكن فيهم إخوانيٌ أو سلفي! لأننا كنا في نهاية السبعينيات، وكانوا من مواليد العشرينيات والثلاثينيات، عاشوا شبابهم في كنف دولة تسعى للخروج من التخلف نحو التنوير، فكانوا يشبهون مجتمعهم. والنماذج المشوهة التي نراها اليوم تشبه مجتمعها كذلك! الخطاب الديني لا يتغير من تلقاء نفسه، ولا بمعزل عن مجتمعه، لكنه يتغير بتوجه واضح وصارم من الدولة، ثم بمنظومة قوانين وإجراءات تعكس صرامة التوجه