قرار منظمة الدول المنتجة للنفط "أوبك" الأخير الخاص بعدم تخفيض انتاجها من النفط الخام، والتي تزعمته السعودية بصفتها أكبر دولة من دول المنظمة والعالم انتاجاً للنفط، أكد على ما طُرح مسبقاً من تحليلات رأت أن خفض أسعار النفط لا يرتبط فقط بقوانين العرض والطلب والانكماش والنمو الاقتصادي، ولكن أيضاً باستخدامه كورقى ضغط في صراعات سياسية، سواء على مستوى عالمي بين الولاياتالمتحدةوروسيا، أو على مستوى إقليمي بين السعودية وإيران. قبيل اجتماع المنظمة الأخير قبل خمسة أيام وصل متوسط سعر البرميل إلى أدنى من 75 دولار، بعدما كان متوسط سعره تحت سقف 115 دولار. وكان من المتوقع أن تتفق دول المنظمة على خفض الانتاج -والذي يبلغ حالياً 30 مليون برميل يومياً- كإجراء اعتيادي في تاريخ "اوبك" لمواجهة انخفاض الأسعار، وخاصة أن هذه المرة كان سعر برميل النفط يتهاوى بوتيرة مسرعة خلال الشهور الثلاث الأخيرة، حيث بلغت نسبة الانخفاض وحتى اجتماع "أوبك" الأخير ما يقارب 35%، ويزيد الانخفاض مرة أخرى بعد قرار عدم زيادة الأنتاج ليصل إلى ما يزيد عن 40% بواقع سعر أدنى من 65 دولار للبرميل. وما زاد التأكيد على ضلوع السعودية -بصفتها المنتج الأول للنفط في العالم- مع الولاياتالمتحدة في خفض متعمد لأسعار النفط بمقدار يتجاوز مسألة تراجع النمو الصناعي العالمي وانخفاض الطلب على النفط، أن معظم دول "أوبك" كانت تحبذ تخفيض الإنتاج، وعلى رأسها إيران والجزائر وفنزويلا والعراق ونيجريا، وهي الدول التي تعاني ضرر اقتصادي من انخفاض أسعار النفط، إلا أن السعودية صممت على عدم تخفيض الإنتاج ، وهو ما كان توقعه الباحث السياسي والخبير بشئون الطاقة والخليج العربي "سايمون هاندرسون"، حيث رأى أن "اجتماع أوبك بدأ يتشكل بالفعل على أنه تجمّع سينعقد في جو مليء بالمشاحنات. إذ تعارض المملكة العربية السعودية أي تخفيضات في سقف الإنتاج الحالي للنفط، وهو موقف تدعمه الكويتوالإمارات العربية المتحدة، حليفتاها في الخليج العربي. إلا أن فنزويلاوإيران، وأعضاء آخرين من الذين تتطلب ميزانياتهم أسعار نفط مرتفعة، ربما سيحثون على إجراء تخفيضات. وترى الرياض على الأرجح أنه سيتعين عليها تحمُّل الجزء الأكبر من أي من هذه التخفيضات، لذا سيأتي موقفها معارضاً. بالإضافة إلى ذلك، لا تميل المملكة قط إلى التخفيف من الألم الاقتصادي على إيران". "حرب النفط" كما أسماها محللون، من بينهم الكاتب الأميركي"توماس فريدمان" رأى في مقال له بصحيفة "نيويورك تايمز" أن ما يساند المسلك السعودي الأميركي المشترك في خفض أسعار النفط يكمن في توفر احتياطي نقدي لدى السعودية جنته على مدى السنين الماضية، وتحديداً منذ أواخر 2007 حيث أرتفع سعر النفط إلى 140 دولار للبرميل، بالإضافة إلى أن الولاياتالمتحدة راكمت مخزون استراتيجي خلال الفترة الماضية يكفي لأن يعوض خسارة شركات النفط الأميركية ومن ضمنها الشركات التي استثمرت في مشاريع استخراج النفط الصخري، حيث كانت أسعار النفط القديمة تكفي الجدوى الاقتصادية، حيث يتكلف انتاج البرميل الواحد حوالي 80 دولار، وبالتالي فأن الأسعار الحالية ستحول دون الاستمرار في انتاجه إلى أن ترتفع أسعار النفط مرة أخرى. بالإضافة إلى معدل الأمان الاقتصادي لدى واشنطنوالرياض لتحمل خسائر خفض سعر النفط، فأن هناك اتفاق سياسي ما بين الدولتين على استخدام النفط كسلاح في صراعاتهم، فمن ناحية تسعى الولاياتالمتحدة إلى الضغط على روسيا -التي يعتمد اقتصادها على تصدير النفط والغاز- من أجل ملفات عاجلة وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية والسورية، وهو ما يتقاطع مع الأجندة السعودية في الملف السوري، بالإضافة إلى اتفاق الدولتين على استمرار محاصرة إيران اقتصادياً، فالأخيرة أيضاً تعتمد على بيع النفط لتدوير عجلة اقتصادها الذي يعاني من عقوبات على خلفية الملف النووي، وهو أيضاً ما يزعج السعودية بالإضافة إلى ما تراه في نفوذ إيراني واسع يحاصر المملكة ومصالحها من اليمن إلى سوريا مروراً بالبحرين. لكن خلال الأيام الأخيرة بدا أنه لا استكانة للخطوات الأميركية-السعودية المشتركة فيما يخص تخفيض اسعار النفط، فعلى العكس من باقي القضايا التي من الممكن أن تحد بأطراف الصراع سواء بين واشنطنوموسكو أو الرياض وطهران، يأتي النفط كسلعة استراتيجية مرتبطة بسوق عالمي، فمن ناحية الانخفاض غير الطبيعي بمعايير السوق يضر بدول ليست معنية بصراعات كالتي بين إيران والسعودية، مثل نيجيريا، وحتى الدول الإقليمية المعتمدة على النفط في اقتصادها كالعراق ودول الخليج باستثناء الإمارات، سيتضرر اقتصادها بشكل أو بأخر جراء هذا الانخفاض، ناهيك عن شركات النفط العابرة للقارات والتي بلغ مجمل خسائرها خلال الأيام الثلاثة الماضية ما يتجاوز 75مليار دولار. والأمر نفسه بالنسبه للسعودية، حيث ذكر "هاندرسون" في بحث نشره "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدني" أنه على الرغم من أن الانخفاض الحالي في سعر النفط سيظهر من جديد تأثير السوق السعودية، إلا أن الوضع لن يمر من دون بعض التأثيرات السلبية في الداخل اذا ما استمر على المدى الطويل. إذ يُعتقد أن المملكة تحتاج إلى ما لا يقل عن حوالي 80 دولار للبرميل الواحد لتلبية متطلباتها للإنفاق في الميزانية من دون الوقوع في عجز. فاحتياطياتها النقدية الضخمة توفر لها وسادة اقتصادية كبيرة – ولكن ليس بلا حدود – في مواجهة مثل هذا العجز. على سبيل المثال، إذا انخفضت عائدات النفط إلى نصف أعلى مستوياتها في عام 2013، ستستمر الرياض في امتلاك المال الكافي للمحافظة على دعمها السخي والرواتب والمنح التي تقدمها لسنوات قادمة. ويعتبر هذا السخاء ضرورياً للعقد الاجتماعي الضمني للمملكة ألا وهو: أن شعبها يتقبل افتقاره للحريات الديمقراطية نظراً إلى الكرم الأبوي لعائلة آل سعود. لكن انخفاضاً كبيراً في السعر سوف يُنظر إليه على أنه فشل سياسي، مما قد يؤدي إلى تنشيط المعارضة، التي ربما قد تشمل أولئك الشباب السعودي المتطرف (ومجندين جهاديين محتملين) الذين يزدرون آل سعود". وتأتي المفارقة بأن أخر المتذمرين من ضرر خفض الأسعار كانت روسيا، حيث رفضت أي سعي لخفض الإنتاج، واجتمعت مع دول في منظمة "أوبك" وأعلن وزير الطاقة الروسي"ألكسندر نوفاك" في أعقاب هذا الاجتماع الذي عقد على هامش قمة "أوبك" قبل أيام أن هناك أتفاق على ابقاء معدلات الأنتاج كما هي في 2014. وهو ما يطرح تساؤلاً حول مدى استعداد الاقتصاد الروسي لتحمل هذه الخسائر التي بدت أثارها تطل على قيمة الروبل(العملة الروسية)، وهنا يرى الباحث السياسي في شئون الطاقة "ميخائيل زكريتشنوف" في مقال له نشرته صحيفة "راسيسيكا جازيتا" الروسية أن "هناك تصريفات عدة لمواجهة انخفاض أسعار النفط، فأولاً تستطيع روسيا الحفاظ على معدل ما فوق السبعين دولاراً إذا وجهت انتاجها إلى المجتمعات النامية الجديدة داخليا، وثانيا في إيجاد بدائل للدول التي حظرت استيراد النفط والغاز الروسي، وأخيراً الصين تطالب بالمزيد من النفط في وقت التباطؤ الاقتصادي لتخزينه، فاحتياطي الفحم الصيني بدأ في النضوب في عدد من المقاطعات الصناعية الضخمة خارج بكين. وبخلاف ذلك ستتحمل الولاياتالمتحدة عبء تذمر دولها الحليفة من خفض الأسعار وهو ما يمنح موسكو فرصة مناورة سياسية جيدة سواء في البحر الأسود أو منطقة الخليج الفارسي. هناك أيضاً خوف من انكماش اقتصادي عالمي بسبب التلاعب الأميركي في أسعار النفط، فمن ناحية فأنه من غير المتوقع أن يزيد أنتاج النفط لتلبية زيادة استهلاك بسبب انخفاض سعره، وخاصة في الدول الأوربية، فالجميع حتى السعودية يريدون ابقاء الانتاج في مستواه الحالي، والتحدي الأن في حرب الخسارة التي شنتها واشنطن أن من يخسر أقل فسوف يربح، وهنا الخسارة لن تكون مالية فقط، ولكنها سياسية أيضاً، وبالنظر إلى وضع السياسة الأميركية الحالي وخاصة في الشرق الأوسط، نجد أنه من الممكن أن تخسر الولاياتالمتحدة مزيد من حلفاء تضرروا من خفض سعر النفط ولن يتحملوا استمرار ذلك لأكثر من شهور معدودة". بشكل عام هناك اعتقاد لدى الجميع أن حرب اسعار النفط الحالية لن تستمر أكثر من شهور، وهي بالأساس مرتبطة بملفات سياسية عالقة، سواء في أوكرانيا والقرم، أو الملف النووي الإيراني، وهو ما يعني أن هناك بدائل سياسية تتيح لروسيا الالتفاف على خطوات الولاياتالمتحدة، سواء فيما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية، أو انخفاض سعر النفط، وهو ما بدأ بالفعل بزيارة الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" لتركيا، لتدشين خط نقل وتكثيف الغاز، بالإضافة لاتفاقيات تجارية معتمدة بعملات البلدين لا بالدولار، وهو ما يعني أن أزمة انخفاض أسعار النفط التي اختلقتها واشنطن مؤخراً بهدف الضغط على روسيا خلقت مساحات مناورة سياسية جديدة يستطيع "بوتين" أن يستغلها على خلفية الضرر الذي خلفته السياسة الأميركية، والتي أخرها حرب النفط.