الدولة مصطلح سياسي له دلالات محددة، وهو تعبير عن مشروع سياسي واقتصادي بعينه يخدم مصالح اجتماعية محددة، ويختلف حجم وطبيعة دور المؤسسات السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية الحاكمة المكونة لجهاز الدولة وفقا لطبيعة هذا المشروع الذي يكون فكر أو أيديولوجية الدولة، وهذا الدور تتم صياغته في أدوات تشريعية في مقدمتها الدستور الذي يضع الخطوط العريضة لأدوات الحكم ويحدد اختصاصات السلطات المختلفة، وتنشأ عن محصلة العلاقة بين كل هذه المؤسسات كيان الدولة. عندما قام “الضباط الأحرار” بحركة يوليو 1952 انقضت الحركة على المؤسسات السياسية الحاكمة وألغت الأحزاب السياسية وعطلت العمل بالدستور ومنحت مجلس قيادة الثورة صلاحيات واسعة في الحكم والتشريع بل وفى القضاء أيضا، وبمرور الوقت تبنت السلطة الجديدة مشروعا اقتصاديا مغايرا لواقع ما قبل 1952 فقامت بعملية مصادرات لرؤوس الأموال وتحولت دولة الضباط إلى المالك الأول لرؤوس الأموال والاستثمارات بالإضافة إلى سيطرتهم السياسية. كل هذا تواكب مع سيطرة واضحة على أجهزة الإعلام والصحافة والنقابات العمالية والمهنية والاتحادات الطلابية وغيرها من المؤسسات. لقد قام الضباط إذن بهدم دولة فاروق لبناء دولة ناصر. وفى 1971 انقلب السادات على هذه السياسات وشرع في بناء مشروع سياسي واقتصادي مختلف وبالتالي قام بهدم مؤسسات الدولة الناصرية ليبنى دولته الجديدة. من الواضح إذن أن أي تغير في طبيعة القوى الاجتماعية الحاكمة يصحبه بالضرورة تغييرات ملحوظة في بناء الدولة، وتتوقف طبيعة هذه التغييرات السياسية طبقا لطبيعة التغيير الاجتماعي ومدى جذريته. فالثورة باعتبارها عملية تستهدف أحداث تغييرات جذرية في علاقات الإنتاج وطبيعة أشكال الاستثمارات ومشروع التنمية وأنماط الملكية وغيرها من أشكال العلاقة بين القوى الاجتماعية المختلفة تتبنى بالتالي مشروعا مختلفا للدولة يتم بنائه على أنقاض المشروع القديم. أما الاتجاهات الإصلاحية التي تسعى إلى إجراء بعض التحسينات الاجتماعية والسياسية على أرضية قبول حكم نفس الطبقة ونفس علاقات الإنتاج فإنها تتبنى مطالب الترميم التشريعي والسياسي لجهاز الدولة الحاكم هو الخيار المطروح على أجندتها. من الصعب جدا الفصل بين الدولة والنظام السياسي الحاكم في المجتمعات الطبقية بشكل عام وفى الأنظمة الاستبدادية بشكل خاص. فقد عاصرنا جميعا حالة الاشتباك الشديد بين كل مؤسسات الدولة والنظام السياسي في دولة مبارك التي اتسمت بطابع بوليسي صريح. كانت هناك حالة محكمة من البناء الأمني لكل المؤسسات السياسية والإنتاجية والخدمية والأكاديمية. وبالرغم من ظهور بؤر احتجاجية ضد هذه الحالة في مؤسسات القضاء والجامعات إلا أنها لم تتمكن من مقاومتها والقضاء عليها لأن البناء التشريعي والهيكلي الذي كان يحكم أداء هذه المؤسسات كان مصمما بشكل يؤدى بالضرورة إلى انصهارها في النظام السياسي الحاكم. كان رؤساء الجامعات ورؤساء المحاكم وقيادات المؤسسات الصحفية ورؤساء الشركات والبنوك وغيرها من المؤسسات يتم تعيينهم بأوامر مباشرة من الأجهزة الأمنية بما يخدم مصالح نظام مبارك والطبقة الرأسمالية الفاسدة التي يعبر عنها. وبالنسبة للمؤسسات الأمنية فقد كان ولاؤها لمبارك لا يقبل الشك وكان أداؤها المهني يصب في هذا الإطار وتحول الأمن بدلا من أن يكون حقا أساسيا للمجتمع إلى أداة لخدمة استمرار النظام. كان الشعار المركزي لثورة 25 يناير “الشعب يريد إسقاط النظام” يحمل بالضرورة في جوهره أن الشعب يريد بناء دولة جديدة على أنقاض دولة الفساد. وقد كانت الاحتجاجات والاعتصامات العمالية والطلابية واحتجاجات الإعلاميين والصحفيين وأساتذة الجامعات والقضاة وغيرهم من القطاعات المجتمعية تطالب بصورة واضحة باستقلال هذه المؤسسات وتغيير قياداتها الفاسدة وتغيير البناء التشريعي الذي يحدد آليات تشغيلها واختيار قياداتها. كانت هناك أيضا مطالبات شعبية دائمة بما سمى “إعادة هيكلة وزارة الداخلية” وإقصاء الفاسدين من الضباط ورجال أمن الدولة وإخضاع أداء جهاز الشرطة للرقابة القضائية والشعبية ووصلت المطالبات إلى أن يكون وزير الداخلية مدنيا من خارج جهاز الشرطة. كل هذه المطالبات تعنى بالمعنى السياسي تغييرات جذرية في هذه المؤسسات، بناء جديد على أنقاض القديم، وليست مجرد إصلاحات وترميمات مع الإبقاء على البنية الهيكلية والتشريعية لهذه المؤسسات. وفى السياق نفسه كانت الاحتجاجات العمالية المطالبة باستعادة الشركات التي تمت تصفيتها في صفقات فساد الخصخصة والحصول على أحكام قضائية بذلك تعكس توجها اقتصاديا مغايرا لسياسات الليبرالية الجديدة التي تبناها جمال مبارك وحاشيته من رجال الأعمال والمستثمرين. لقد طالبت جماهير الشعب بالتغيير الثوري وليس بالإصلاح، وبدأت نضالها الطويل الذي مازال مستمرا لبناء دولة 25 يناير على أنقاض دولة مبارك. ما الذي حدث في 11 فبراير، في ذلك اليوم التاريخي سقطت مؤسسة رئاسة الدولة وأعقبها بساعات سقوط مؤسستها التشريعية بحل مجلسي الشعب والشورى، وأيضا تولى المجلس العسكري سلطة الحكم. ببساطة لقد تم إسقاط بعض من مؤسسات الدولة بعد استبدالها بمؤسسة أخرى من نفس جهاز الدولة. كان من الطبيعي لسلطة المجلس العسكري التي هي نفسها القيادة العسكرية لنظام مبارك والتي تمثل المستثمر الأول في مصر بحكم سيطرتها على أكثر من 25% من حجم الاستثمارات الاقتصادية في مصر، أن تقاوم بشدة النضالات الجماهيرية المطالبة باستكمال إسقاط النظام وأن تدافع عن بقاء كل مؤسسات الدولة على حالتها السابقة بل والقيام بمزيد من إجراءات هيمنتها عليها بعسكرة العديد من المؤسسات الاقتصادية والإعلام وأجهزة الإدارة المحلية. هذه السلطة الجديدة بدأت في بناء أدوات سيطرتها السياسية والاقتصادية في اتجاه تكريس هيكل دولة مبارك الفاسدة من خلال سلسلة من التشريعات والسياسات والمواجهات القمعية مع الحركة الجماهيرية. الادعاء بوجود مؤامرة لهدم الدولة هو الأكذوبة التي تستخدمها سلطة العسكر لتحجيم الحركة الجماهيرية وتضليلها في محاولاتها المستمرة لتصفية الثورة. هذا الادعاء يستهدف وضع جماهير الشعب بين خياري الفوضى والاستقرار على أرضية أن جهاز الدولة هو صمام الأمان ضد الفوضى، وهو ادعاء تستخدمه كل أنظمة الحكم الاستبدادية وقد سبق أن استخدمه مبارك نفسه في أيام حكمه الأخيرة. إن دعوات إسقاط الدولة لا تعنى أبدا حرق المنشآت وتحطيمها وتفريغ المؤسسات من كوادرها وتعطيل العمل بها في اتجاه الفوضى ولكنها تعنى بالأساس القضاء على هذه العلاقة الأمنية الفاسدة بين مؤسسات الدولة والنظام السياسي ومنحها المساحة الأوسع من الاستقلال الذي يحقق إدارتها بشكل ديمقراطي وتوجيه أدائها لخدمة مشروع تنموي يمنح المجتمع حقوق العمل والأجر العادل والخدمات العامة. دعوات إعادة بناء أجهزة الأمن واستقلال القضاء واستقلال الجامعات وانتخاب المحافظين وأجهزة الحكم المحلى مع منحهم صلاحيات حقيقية في الإدارة وإسقاط سياسات الخصخصة وحقوق التنظيم النقابي المستقل وإعادة هيكلة الأجور وغيرها من مطالبات ثورة يناير هي دعوات بناء دولة مختلفة لن تحدث بالضرورة إلا على أنقاض دولة مبارك. إن استخدام عبارات مثل “هيبة الدولة” والخطوط الحمراء لمؤسسات بعينها على رأسها المؤسسة العسكرية تستهدف بالأساس تكريس البناء السياسي والمؤسسي لنظام مبارك بوجوه مختلفة، لن تنتصر الثورة إلا ببناء دولة 25 يناير.