صدر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية، كتاب «الرواية وتحرير المجتمع» للناقدة الدكتورة أماني فؤاد. استعرضت الناقدة مجموعة تقنيات جديدة تجلَّت في الكتابات والنصوص الروائية في العِقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين، راصدةً ظاهرة الثورة، المتمثلة في محاولة الروائيين الجدد تناول الوجود فنيًّا وفكريًّا بشكلٍ مغايرٍ، كأنهم ينزعون عن عالم الإبداع الروائي طبقات قشوره الأبوية ويثوِّرون تقنياته الفنية المستقرة. قسَّمت المؤلفة كتابها إلى أربعة مباحث، تناولت خلالها سبع عشرة رواية مصرية معاصرة لاثني عشر كاتبًا، وافتتحت كل مبحثٍ بمدخلٍ كاشفٍ، المبحث الأول حمل عنوان: «التقنية وسؤال الدين»، وتناولت فيه المؤلفة أربع روايات، هي: «إنجيل آدم» لمحمد علاء الدين، و«كتاب النحات» لأحمد عبد اللطيف، و«ضريح أبي» لطارق إمام، و«صيَّاد الملائكة» لهيدرا جرجس. وحمل المبحث الثاني عنوان: «التقنية وسؤال الواقع الافتراضي والفانتازيا»، وتناولت فيه خمس روايات، هي: «كلب بلدي مدرب» لمحمد علاء الدين، و«في كل أسبوع يوم جمعة» لإبراهيم عبد المجيد، و«صانع المفاتيح»، و«عالم المندل» لأحمد عبد اللطيف، و«روح محبَّات» لفؤاد قنديل. أما المبحث الثالث، فجاء بعنوان: «التقنية الروائية وسؤال التاريخ»، وتناولت فيه المؤلفة أربع روايات، هي: «الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس» لطارق إمام، و«باب الخروج» لعز الدين شكري، و«تلك الأيام» لفتحي غانم، و«مطر على بغداد» لهالة البدري. بينما جاء المبحث الرابع – الأخير – بعنوان: «التقنية الروائية وسؤال اللغة والسرد»، وتناولت فيه أربع روايات، هي: «إلياس» لأحمد عبد اللطيف، و«تانجو وموال» لمي خالد، و«سيرتها الأولى» لمحمود عبد الوهاب، و«هكذا يعبثون» لأمينة زيدان. خصَّصت المؤلفة المبحث الأول من كتابها لمناقشة تجلِّيات الخطاب الديني الرسمي والشعبي في الرواية العربية، موضحة أن الدين كان له حضوره الناصع في بنية النص الروائي، لكنه ليس الحضور المباشر التقريري، وإنما يتخذ من الطبيعة المرنة للتقنية وما تتيحه من أدوات جمالية للصياغة في الإفصاح عن هذا الحضور رمزًا وتوازيًا، تجلِّيه في صور ومجازات لغوية وأحداث وصراع يتجسَّد في شخوص العمل الفني، ويتجلَّى في رؤى أبطاله وتوجهاتهم ودوافعهم وتفسيراتهم لما يعنُّ لهم من تساؤلات وجودية. وقد حاولت المؤلفة – في هذا المبحث – إلقاء الضوء على تجلِّيات الخطاب الديني في الرواية، بمعالجةٍ نقديةٍ متأنيةٍ – كما تصفها – لأربع روايات، هي: «إنجيل آدم»، و«كتاب النحات»، و«ضريح أبي»، و«صياد الملائكة»، حيث اتفقت هذه الروايات فيما بينها في اتخاذ الدين قاسمًا مشتركًا وأرضية جامعة تتمظهر على مسرحها سلوكيات الإنسان وتوجهاته، ويفصح من خلالها عن أفكاره ورؤاه وشكِّه ويقينه، فضلًا عن اتفاقها في الرؤية الفنية التي اتخذت من الدين مجالًا تتضح من خلاله إشكاليات الإنسان المعاصر وتساؤلاته وأزماته، ولاختلافها فيما بينها في توظيف التقنية الروائية وأدوات الممارسة الجمالية للنص، بالإضافة إلى اختلاف توجُّه المنطق الروائي في الإعلان عن شخوصه وصراعه وأحداثه. ففيما اتخذت رواية «إنجيل آدم» الدين باعتباره ميثولوجيا الصراع بين الوعي واللا وعي، متبنية أطروحة المعالجة السيكولوجية الفرويدية لتفسير ظواهر الوجود المنعكسة على شخوص العمل الروائي وتفكيك بِنى الوعي الجمعي في محاولة لفهمها وتوجيهها جماليًّا، نرى رواية «كتاب النحات» تتخذ من الأسطورة والرمز والمفارقة مع الواقع وسيلة فنية لاستعادة الذاتية المهدرة تحت سطوة الشمولية المفهومية التي تكرِّس لها دينية الثقافة، واقتحام المقدس بالتساؤل وإعادة تفكيك التابو، بينما تتجه رواية «ضريح أبي» اتجاهًا دينيًّا مغايرًا ينحو نحو العرفانية الصوفية في إدراك العلاقات الكامنة التي تشكِّل بؤر الصراع الوجودي بين المادة والروح، والإنسان وذاته، أما رواية «صياد الملائكة» فقد وظَّف صاحبها الموروث الديني توظيفًا مغايرًا، معبرًا عن فكرة استلاب الهوية وضياع الإرادة الفردية بفعل الخضوع لتفسيرات الدين الكهنوتية التي يتبناها، تشريعًا ومحاسبة، رجالات التدين الرسمي الإسلامي والمسيحي، وهو ما يطمس الإنسان كذات لها مطالبها وطامحة إلى حرية تبني تصورها العقائدي خارج إطار ولاية الفقيه. وفي المبحث الثاني، تتناول المؤلفة خمس روايات لاتفاقها في استخدام التقنية الروائية لتوظيف الواقع الافتراضي داخل بنية السرد وعلاقة الإنسان بالإنترنت كعالمٍ موازٍ غير مرئي، أو اللجوء إلى الطابع الفانتازي كمجالٍ لإفصاح بنية التقنية عن ممارستها في نصٍّ روائيٍّ مفارقٍ للواقع، كمحاولةٍ للانفلات والتشظِّي المدروس والموجَّه بعمقٍ وخبرةٍ ذهنيةٍ ونفسيةٍ لصعوبة القبض على ذات كاتبها، وصعوبة إملاء اعترافٍ على روح المبدع بالرُّكون إلى التسليم والاعتراف بصلابة الواقع وعدم القدرة على تفتيته. وقد قسَّمت المؤلفة الروايات الخمس إلى قسمين، الأول يضم روايتين هما: «كلب بلدي مُدرَّب»، و«في كل أسبوع يوم جمعة»، حيث تكشف الروايتان عن إشكاليات تواصل الإنسان في العصر الحديث وحاجاته ومتطلباته ونزوعه للتحقُّق في ظلِّ عالمٍ متشظٍّ يتنازع هويته ويهدر ذاتيته خلف عالمٍ متنوع من الشاشات الباردة التي لا تتيح حياة حقيقية، أما القسم الثاني فيضم ثلاث روايات، هي: «صانع المفاتيح»، و«عالم المندل»، و«روح محبات»، وهي ذات طابع فانتازي، يمتاح من الخيال والموروث الأسطوري والأحلام؛ لبناء تشكيل النص تشكيلًا مجازيًّا يعبر فيه الروائي عن رؤيته، ويمرِّر من وراء مجازيته همومه الوجودية وتساؤلاته وموقفه من الحياة والوجود والدين والمقدس الجمعي الضارب بجذوره في أعماق الذاكرة التخيلية للوعي. وفي المبحث الثالث، تتناول المؤلفة – بالدراسة والتحليل النقدي – أربع روايات، هي: «الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس»، و«باب الخروج»، و«تلك الأيام»، و«مطر على بغداد»، باعتبار الروايات الأربع تمثل القدرة على تثوير الراكد وأحيانًا تحريف المسطور بفعل المادية التاريخية، أو إعادة توجيهه أو قراءته فرديًّا، بما يعبر عن طموحه الوجودي وتطلُّعاته الإنسانية المشروعة، وأوضحت المؤلفة أن من الروايات الأربع ما جنح إلى قلقلة ثوابته بشكلٍ انتقائيٍّ يضيف فيه الأديب ويحذف بما يوائم ذاتية الروائي ورؤيته كما في «كفافيس»، ومنها ما تبنَّى رؤية استشرافية تتطلع إلى المأمول فيه أو التنبؤ بما سيكون كما في «باب الخروج»، ومنها ما جنح إلى تحقيق فردية الذات الكاتبة بإنتاج تاريخ تصوري خاص، استثمارًا للحظة تاريخية معينة، أو بدءًا انتقائيًّا لأحداث تاريخية صغيرة، لكنها بمثابة تأسيس وعي تاريخي فردي وإعادة هيكلة الماضوي بمراهنات اللحظي وإشكالياته وتطلعاته كما في «تلك الأيام»، ومنها ما تبنى واقعية الحدث التاريخي وخطورة مراهناته الحربية وأثرها التشويهي للكيان الإنساني وتحطيمها للقيمة وللجمالي الساري في المستأنس وجودًا كالأهل والأحباب والأوطان، والخوف من الاستلاب لرموز تجسِّد فعل الحياة وأمانها، لا سيما للمرأة، وذلك كما في رواية «مطر على بغداد». وتنتقل المؤلفة في المبحث الرابع إلى دراسة وتحليل اللغة، باعتبارها مادة الرواية ووسيلتها وحاضنة الوجود أيضًا؛ إذ من خلال اللغة تفصح التقنية الروائية عن تشكلها ودراميتها، ويعبر الروائي عن رؤيته، ويتحقق الجدل التذوقي بين المؤلف والمتلقي، وقد ضمَّ هذا المبحث أربع روايات هي: «إلياس»، و«تانجو وموال»، و«سيرتها الأولى»، و«هكذا يعبثون». وأكدت المؤلفة، من خلال دراسة وتحليل الروايات الأربع، على أهمية اللغة التي تمثل الوعاء الحامل للفكر، الذي هو لغة صامتة، وتلجأ اللغة باعتبارها فكرة مكتوبة أو منطوقة لتفعيل وظيفتها الجمالية وطاقتها التأثيرية للتعبير عن الذات الإنسانية والتغيير في البنية الصلبة لتصورات الأشياء المتحيزة بفعل النظام والمكان وقوانين الحركة وشواغل الجسم، حيث تسعى إلى إعادة ترسيم الواقع وتبديل الوقائع، عبر علاقات كثيرة كالإزاحة والاستبدال والغرابة وتدشين المألوف أو إقصائه والترميز والمجازية والاستعارة، وتخطي صورة البلاغة الزخرفية إلى جوهر القيمة الجمالية الفاعلة جدليًّا بين الإنسان والواقع، وبين النص وطموحه كعلامة على المغايرة والبقاء وكسب مساحة في دائرة المؤثر والإفصاح عن المسكوت عنه واستبدال المبجل حرفًا وكتابة بالمشاغب والمتمرد روحيًّا وجماليًّا في ذائقة المتلقي، أو الرهان على الإيقاع الموسيقي بالنظر إلى تراتبية العالم وثبوتية تكوينه ونسقية قوانينه. وأشارت المؤلفة إلى أن الدراسة النقدية لروايتي «إلياس»، و«تانجو وموال» حاولت الكشف عن أن الحياة بما فيها والعالم بأشيائه وموجوداته نصٌّ موقَّع يمكن تحويل شخوصه وأحداثه وصراعاته إلى نوتة موسيقية أو لحن إيقاعي يتجلَّى في حبكة العمل الروائي مقصودًا لذاته وظلًّا لتناغم أو تنافر ذات المؤلف مع النظم، لغويًّا كان أم وجوديًّا.