ما أقسى أن تتنازعك نفسك بين نقاءين فإن اخترت أحدهما دون الآخر كنت خائنا للآخر ولنفسك ، أي شقاء يعيشه من يذق هذا الصراع ؟ وأي قلب يمكن أن يختار بين فقدين يعنيا موتا وخواء ، إنها " عايدة " .. التي ذاقت هذا العذاب فوضع " فيردي " لحنا خلد عذابها في أوبراه التي حملت اسمها ، كانت أميرة حبشية فصارت أسيرة لتصبح جارية لابنة فرعون مصر في في قصر الفرعون مصر ، نقية هي صافية النفس لكن القدر ترصد قلبها ، حين تعدت القوات الحبشية من أثيوبيا حدود مصر ليصبح لزاما على مصر مواجهة المعتدين وحفظ هيبتها وأراضيها ، فيتم اختيار " راداميس " حبيب عايدة قائدا للجيوش المصرية المحاربة للأحباش المعتدين .. أهل عايدة . تلك مأساة " عايدة " التي ألف موسيقى أوبراها الموسيقار الإيطالي " فيردي " خصيصا بمناسبة افتتاح قناة السويس بطلب من الخديو إسماعيل عام 1870 ، والتي عثر على مخطوطتها البردية عالم الآثار الفرنسي "أوجست ماريتا" في وادي النيل، وألف قصتها "ميريت" باشا عالم المصريات الفرنسي الشهيرليؤلف لتلحن وتصبح الأوبرا الشهيرة الخالدة ، وتعود " عايدة " من جديد على المسرح الكبير لدار الأوبرا المصرية لمدة أربعة أيام بدأ أولها يوم أمس الثلاثاء في الثامنة مساء ، هذه الأوبرا التي تعد من الريبرتوارات السنوية لدار الأوبرا وتشهد إقبالا جماهيريا كبيرا ، أوبرا "عايدة" تقدمها كل من فرقة وأوركسترا وباليه وكورال أوبرا القاهرة وتشهد هذا العام مزيدا من إبداع عناصرها سواء في الغناء الأوبرالي الذي قاده الرباعي المتميز د. إيمان مصطفى في دور " عايدة " و د. رضا الوكيل في دور الكاهن "رامفيس " والفرنسي ذو الصوت التينور" فنتشنزوسانيريللي" في دور " راداميس " القائد المصري وهالة الشابوري في دور "أمينيريس" الأميرة الفرعونية ، بالإضافة لتميز الرقصات والسينوجرافيا والديكور والإضاءة لتخرج بشكل أكثر تجديدا وجذبا ، العرض من إخراج الراحل عبد المنعم كامل، وقيادة أوركسترا " ديفيد كريشنزي " وتصميم رقصاته لإرمينيا كامل ، وديكور محمد حجاج وإضاءة ياسر شعلان ، لتقدم الأوبرا بتصميمها الجديد بحد ذاته معزوفة إبداعية مستقلة . " أوبرا عايدة".. قدمت في أربعة فصول حيث يبدأ الفصل الأول بديكور يشبه المشهد الأخير ليبدأ من خلال رقصة باليه تعبيرية تعبر عن مصير راداميس الذي تحمله الأشباح السوداء في مقبرته بخلفية تشكل شكلا مفرغا لمفتاح الحياة بظل أزرق موج بالحزن ، مع عمدان ذهبية فرعونية حيث يأخذنا ذلك لبداية القصة حيث تأتي أنباء إشاعة اقتراب الأحباش من الحدود المصرية لينفرد "راداميس" في غناء مبدع يعبر فيه عن واجبه في محاربة الأعداء، وعن حبه لعايدة وإصراره أن يعود منتصرا لها والتي يسميها " ابنة السماء " حيث النص الأوبرالي زاخر بالمفردات بليغة التعبير وبالغة العذوبة والرقة ، ذلك مع خلفية عكست الروح والنمط المصري في الديكور من خلال الخطوط في أبسط صورها، وهو ما كان سائدا في معظم العرض مع استخدام التماثيل الفرعونية دون إفراط ، مع ملابس فخمة قيمة جديرة بالعرض وشخصياته كقائد وملك وأميرة بالأخص بما تتطلب من إبهار وبذخ ، تدخل بعد ذلك الأميرة " أمينيرس " لنستكشف أثناء غنائها شخصيتها ودورها وما تحمله من حب كبير لراداميس ، ليسري على لسانها ولسان كثير من الشخصيات ذكر الإلهة " إيزيس " والتوسل برحمتها لإنقاذهم أو لتحقيق النصر ، وفي مناجاة أمينيريس لمحبوبها ينطق اسم " عايدة " لتحتدم غيرة الأميرة وتصبح عايدة غريمتها ، لتدخل عايدة في وصلة من الغناء الأوبرالي الرائع بصوت سوبرانو للقديرة إيمان مصطفى فتعبر عن طبيعة عايدة وحبها وصراعها وخوفها من محاربة قومها فتصف نفسها بالمنكودة الطالع ، وبانتهاء هذه الفقرة التي حظيت بتصفيق حاد يرتفع الستار الخلفي عن بهو قصر ملكي فخم ذاخر بتماثيل فرعونية ذهبية وبالجواري والعبيد والجنود ،ليتقدم الملك معبرا عن القضية الوطنية والدفاع عن مصر معلنا اختيار إيزيس لراداميس قائدا وذلك بمباركة الشعب وهتافاته ومباركة كبير الكهنة " رامفيس " الذي قدم دوره بإبداع الصوت الباص القوي الفنان رضا الوكيل ، ويحيي ويشجع الجميع راداميس ويزداد عذاب ومأساة عايدة وصراعها بين حبيبها ووطنها وأهلها وتآكلها خوفا من المصير ، ليأتي مشهد آخر في معبد إيزيس لتنصيب راداميس حيث نسمتع هنا بأصوات تراتيل الكهنة التي بدت صافية سماوية زادها جمالا وعمقا الصدى المنفذ ببراعة توحي باتساع المكان وذلك بمصاحبة صوت الهارب ، لتبدأ مناجاة عايدة كسيرة الروح لنفسها وإلهتها ليستكمل بعدها التنصيب حيث نجد تعبيرا سينوجرافيا مبدعا من خلال تمثال بشري ذهبي لأحد الفراعنة حاملا قرص الشمس ليتحرك به من آن لآخر ، مع رقصة فرعونية الطابع من مجموعة الراقصات اللاتي يسجدن على الجانبين لراداميس بعد ذلك في مشهد مهيب ، ليعقب ذلك مشهد في غرفة الأميرة أمينيرس في شوق لحبيبها راداميس وتزداد شكوكها في عايدة حتى تتأكد من حبها له ، وقد برع الديكور في إبراز فخامة غرفتها ومظاهر الثراء الأسطورية الجذابة ، لتأتي أنباء النصر ورقصة باليه مرحة بديعة للأطفال الذين يشكلون العبيد بتدريب من راقص الباليه هاني حسن حظيت بإعجاب وتصفيق حاد من الجمهور ، لتغني بعدها عايدة واحدا من أجمل مقاطع الأوبرا بصوت رائع أخاذ حيث ترثي لحالها وطالعها وتتأمل الحب ذلك "القوة الحلوة التي تعذب الفرح " ،عايدة ظهرت بشعر مستعار يعبر عن جنسها الحبشي وملابس توحي باسمرارها بشكل موفق ، ليأتي بعد ذلك مشهد الانتصار وعودة راداميس منتصرا وموكب انتصاره وتكريمه جالبا معه أسرى الأحباش في ملابس رثة وشعر أشعث مع تداخل أصوات الكهنة والتراتيل ورقصات الباليه الرقيقة ذات الطابع الفرعوني من الراقصات والراقصين ليبدأ الجزء الموسيقي الحماسي الأروع والأشهر في موسيقى عايدة وهو " مارش الانتصار " ، يزيد عذاب وصراع عايدة التي تفكر في الهرب مع حبيبها ويتأزم الأمر بتدخل والدها ملك الأحباش " أموناسرو " ( الذي كان رائع الصوت والذي أدى دوره الباريتون " مصطفى محمد") ومحاولته التأثير عليها لخيانة أو هزيمة مصر من خلال حبيبها الذي يرفض ، لكن أمينيرس تسمع الحوار وتسيء تفسيره فيقبض على راداميس ويحكم عليه بالإعدام بدفنه حيا في مقبرة .. تتسلل إليها عايدة لتموت معه ، لينتهي العرض بمشهد بالغ العذوبة والألم معا والدلالة مشابه لما بدأ به العرض حيث شكل مفتاح الحياة المفرغ لكنه هنا بإضاءة بيضاء تدل على العالم الآخر حيث يرتقي الحبيبان سلما يؤدي لداخل مفتاح الحياة ليتعانقا .. عناقهما الأبدي .