لا تعتبر "إسرائيل" أنه من واجب ألمانيا تزويدها بكل ما تريده من أسلحة فقط، بل تعتبر أيضاً أن تعاقد ألمانيا مع أي دولة في الشرق الأوسط لبيعها أسلحة متطورة وخصوصاً غواصات "دولفين" خطيئة تستدعي ماضي الهولوكوست والتلويح بأن أحزاب وهيئات رسمية ألمانية تعادي السامية؛ في استمرار لعملية ابتزاز سياسي هي الأطول في التاريخ الحديث. تعتبر ألمانيا ثاني أكبر دولة تمد "إسرائيل" بالسلاح بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية، وعلى خلاف واشنطن، فأن برلين تقدم مساعدتها العسكرية لتل أبيب ليس لغرض مصلحة استراتيجية في المنطقة، ولكن على خلفية سلسلة من الابتزاز السياسي المتواصل منذ أكثر من ستة عقود، كبرى ثماره هو صفقة غواصات "دولفين"، التي تحملت الحكومة الألمانية معظم تكلفتها حتى الأن، فمن مجمل ما يزيد عن ثلاثة مليارات دولار دفعت الحكومة الإسرائيلية اربعمائة مليون فقط. قبيل وبعد كل صفقة أسلحة بين إسرائيل وألمانيا يسود إعلام الطرفين مناخ من الهجوم والتبرير والدفاع والتشكك، فالإعلام الإسرائيلي يسارع إلى إبراز نوايا وآراء بعض الساسة الألمان الذين يروا في أن تزويد إسرائيل بأسلحة نوعية قد يشعل سباق تسلح في منطقة مشتعلة، أو يرى هؤلاء أنه على الحكومة الألمانية تأجيل أو إعادة النظر في بعض صفقات السلاح مع تل أبيب بسبب العمليات العسكرية الإسرائيلية الوحشية ضد الفلسطينيين، أو بسبب سياسات الحكومة الإسرائيلية في مسألة الاستيطان ومصادرة الأراضي. وكرد فعل على التحفظات الألمانية، سرعان ما يتهم سياسيون ومحللون إسرائيليون الحكومة الألمانية بمهادنة معاديين السامية، وتعزف جُل وسائل الإعلام الإسرائيلية على وتر الهولوكوست ومديونية ألمانيا بتعويض "الشعب اليهودي، فيما ينبري البعض الأخر -وهو غالبا الحكومة- بشرح ملابسات الموقف الألماني والتأكيد على استمرارية تعهد ألمانيا بحماية وتفوق إسرائيل، مع تلميحات عن وجوب أن تكون تل أبيب المستورد الوحيد والمحتكر للأسلحة النوعية الألمانية في الشرق الأوسط، أما أن تشن الحكومة الإسرائيلية حملة إعلامية ودبلوماسية ضد الحكومة الألمانية، مثل التي حدثت في التسعينات، عندما حاولت العراق إبان عهد صدام حسين التعاقد مع الشركة المصنعة لغواصات "دولفين" لشراء ثلاثة غواصات من هذا الطراز، فكان محصلة تلك الحملة أن تتحول الثلاث غواصات إلى إسرائيل بدلاً من العراق، بالإضافة لتحمل الحكومة الألمانية لنفقات تصنيعها. الأمر نفسه تكرر قبل عامين في أعقاب تردد أنباء عن سعي باكستان للحصول على غواصات من نفس الطراز، فاستغلت الحكومة الإسرائيلية الفرصة وأطلقت شكوكها حول ما إذا كانت ألمانيا تلتزم بالفعل حول تعهداتها الخاصة بحماية أمن إسرائيل وضمان أن لا تتعرض لمخاطر بسلاح ألماني تمتلكه أحد الدول التي قد تكون في عداء مع تل أبيب مثل باكستان. وهو ما أفضى في النهاية إلى التعاقد على غواصتين جديدتين تتسلمهم إسرائيل في عام 2015 و2017 وذلك بخلاف الغواصة "تانين" التي تعاقد عليها إيهود باراك في 2009 واستلمتها إسرائيل منذ أيام. ذروة هذه الجدلية بين برلين وتل أبيب كانت في 2012 أيضاً، واستطاعت خلالها ألمانيا المناورة بسبب التراجع الذي شهده النفوذ السياسي لإسرائيل في المنطقة على خلفية اختلاف حكومة نتنياهو مع إدارة أوباما حول مسألة ضرب المنشآت النووية الإيرانية، بالإضافة إلى ما شهدته المنطقة من تغيرات عاصفة اخلت ببوصلة السياسة الخارجية لتل أبيب، وتعقد مسار التفاوض مع الفلسطينيين. وهو ما جعل الألمان يرفضون الابتزاز الإسرائيلي وخاصة بعد تعليق مسئولين إسرائيليين برفضهم أي صفقة غواصات بين القاهرةوبرلين، وهو ما دعا وزير الدفاع الألماني وقتها توماس دي ميزر إلى رفض واستنكار ما أسماه ب"محاولات الوصاية الإسرائيلية"، وهو ما دعا الإسرائيليون إلى تخفيف حدة لهجتهم، فاعقبها زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي ايهود باراك إلى ألمانيا للأطمئنان إلى أن صفقة "دولفين" ستجرى كما اتفق عليها. من الواضح أن هناك تقاسم أدوار بين مكونات الائتلاف الحاكم في ألمانيا تجاه العلاقة مع إسرائيل، فحزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي بزعامة المستشارة الألمانية انجيلا ميركل يؤيد إسرائيل إلى أبعد الحدود وتتعهد ميركل دوما بحرص ألمانيا على "سلامة الشعب اليهودي"، فيما يذهب الحزب الديموقراطي الاجتماعي يساراً ليطرح تساؤلات حول دور ألمانيا بخصوص مساعدة إسرائيل التي تستمر في سياستها العدوانية تجاه جيرانها، وان على ألمانيا الحفاظ على توازن في علاقتها مع الدول العربية والإسلامية لا يختل لحساب إسرائيل. جانب كبير من الساسة الألمان ضد توجيه استخدام أسلحة ألمانيا من جانب إسرائيل في مغامرة هجومية ضد إيران أو لبنان، بما فيهم وزير الدفاع الألماني، ولكن يوجد أيضاً مؤيدين من الساسة الألمان مؤيدين لأي خطوة قد تتخذها إسرائيل في هذا الشأن، ويأتي حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي بزعامة المستشارة أنجيلا ميركل من الداعمين لأي موقف أو خطوة تقدم عليها إسرائيل، ففي أي عدوان إسرائيلي على غزه منذ 2009 وحتى 2014 وقفت ميركل مدافعه عن العدوان الإسرائيلي، بخلاف كثير من الساسة الألمان أو حتى الأوروبيين، والذين اتخذوا مواقف أكثر حيادية، وقد كان موقف ميركل من العدوان على غزة عامل إضافياً في خفض شعبية حزبها وهو ما أدى لخسارة الحزب لانتخابات المقاطعات في 2010 ولكن مع هذا ظل تأييد الحزب والدعم السياسي لإسرائيل وهو ما يردده دائما ًمسئولي الحزب، أخره الخميس قبل الماضي حينما صرح نائب رئيس الحزب أمام البرلمان الألماني"البوندستاج" بأن ألمانيا تقف بكل قوتها إلى جانب إسرائيل، وأن مسألة دعم ألمانيا لإسرائيل ليس مجرد قول كلمات لطيفة، ولكن بدعم إسرائيل بالأسلحة الدفاعية. حالياً، وفي أعقاب تسلم إسرائيل لغواصتها الجديدة، يجرى نفس تقاسم الأدوار، ففي حين تتعهد ميركل بالدفاع عن أمن إسرائيل وضمان تفوقها والتصدي لأعداء السامية في بلدها وأروبا، يصرح نائب رئيس الحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، رالف ستيجنر أن على الحكومة الألمانية إعادة النظر في توريدها السلاح لإسرائيل، بصفتها دولة تقع في منطقة مشتعلة بالأساس، وهو ما يعني أن ألمانيا وأسلحتها قد يكونا سبب لاشتعال الشرق الأوسط وامتداد هذه النيران إلى أراضيها عن طريق المتشددين الأصوليين الذين يرغبوا بنقل صراعهم مع "اليهود" و "الصلبيين" إلى قلب أوربا. وتشير دلائل عدة منذ سنوات إلى سعي الحكومة الألمانية لإيجاد توازن في مسألة تصدير السلاح لبلدان الشرق الأوسط، وفيما يخص السلاح النوعي الأهم غواصات "دولفين" فأن برلين لا تجد غضاضة في تصديره إلى دوله من الدول العربية، خاصة مصر أو السعودية، ولكنها لا تجد استعداد حقيقي من جانب هذه الدول التي يجب أن تقلق من تفوق إسرائيل البحري، وذلك حسب ما جاء في تقرير لمجلة "فاز" الألمانية، التي سلطت الضوء عن الجدل السياسي الدائر بين الائتلاف الحاكم في ألمانيا، المكون من الحزب الديمقراطي المسيحي الاجتماعي و حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الديمقراطي الحر، بخصوص دعم إسرائيل في حالة قيام حرب ضدها، فالدعم العسكري ليس محل خلاف، ولكن الدعم السياسي هو الأهم، فبخلاف أن جزء غير صغير من الحكومة الألمانية الحالية موقفه غير واضح بهذا الشأن، يرجع بعد المحللين الألمان والإسرائيليين أنه في ساعة الصفر من الممكن أن تتغير الحسابات، وقد ذكر التقرير تصريح لنائب ألماني في البوندستاج عن الحزب الديمقراطي الحر بقوله أن تصريحات نتنياهو المستمرة بخصوص ضرب إيران غير مسئوله، وهو الحزب الذي يقر بوجود التزام تجاه الدولة"اليهودية" ولكنه في نفس الوقت يعتبر همزة الوصل بين الحكومة الألمانية والعالم الإسلامي. وهو ما يعني أن هناك فرصة دائمة لأن تكون دولة عربية كبيرة تكسر احتكار إسرائيل للسلاح الألماني النوعي.