«لو كنتُ قائداً عربيّاً لن أوقّعَ أيِّ اتفاق معَ اسرائيل…هذا طبيعي نحنُ سرقنا أرضهم.. صحيح أنَّ هذهِ الأرض وعدُ الله لنا ولكن هم لا يهتمون…لقد كانَ هناكَ الهولوكوست والنازيين وهتلَر.. لكن هل هذا خطأِ العرب؟ إنَّ الشيء الوحيد الذي يرونهُ.. هوَ أنّنا جئنا وسرقنا أرضهم.. فلماذا سيقبلونَ هذا؟؟» ديفيد بن جوريون «غير أنه إذا كانت القيادة والزعامة مسئولية تمارس وواجبا من القيادة يحقق، فلعل الاختبار النهائي لزعامة مصر قد يرقد في أن ترقى إلى مسئوليتها عن استرداد فلسطين للعرب. إن صح أن نقول إنه لا زعامة لمصر بين العرب بغير استردادها فلسطين للعرب، لأنه لا وحدة للعرب أصلا بدون استرداد فلسطين» جمال حمدان لا تكف الدولة المصرية عن ابهاري بتمسكها العنيد باتفاقية كامب ديفيد…!!!! كم هي المرات وراء المرات التي أتاحت فيها الظروف وتطورات الأحداث و تدفقها، أن تتحرر الدولة المصرية من طوق تلك الاتفاقية، أو حتى تشرع في التخلص منها، لكن في كل مرة كانت تبدوا الدولة المصرية أكثر حرصا من الولاياتالمتحدة بل و من إسرائيل نفسها على هذه الاتفاقية…!!! ومن أقرب الأدلة على ذلك أنه ها قد مضى أكثر من عام على تجميد الولاياتالمتحدةالأمريكية لمعونتها العسكرية والاقتصادية لمصر، ولم تجرؤ الدولة المصرية على التلميح، مجرد التلميح، بتأثير ذلك التجميد على سريان المعاهدة و ضمان استمرار تطبيقها…!!! إن اتفاقية كامب ديفيد أثبتت أنها عابرة للرؤساء والأنظمة، فحتى بعد إسقاط مبارك، وصعود رجل من رجال جماعة الإخوان المسلمين إلى سدة الرئاسة في مصر، كان قد وصف اليهود من قبل بأحفاد القردة والخنازير، فإن هذا الرجل، بل الجماعة كلها التي يفترض أنها تعمل على تحرير الأقصى الشريف، لم تترك فرصة إلا وأثبتت فيها حفاظها التام على الاتفاقية، واعتذارها عن أدابيتها الجهادية الداعية لتحرير فلسطين، حتى وصل الأمر إلى أن الرئيس الإخواني، في رسالة موجهة للرئيس الإسرائيلي، يصف شيمون بريز ب "صديقي العظيم" ويكشف في بدايتها عن رغبته الشديدة "في تطوير علاقات المحبة التي تربط لحسن الحظ بلدينا"!!، ويدعوا في ختمتها للرئيس الإسرائيلي بالسعادة ولبلاده بالرغد!! إن هذا الغزل الإخواني الملتهب لإسرائيل، تزامن مع تحويل جماعة الإخوان المسلمين في مصر لحراب الجهاد تجاه سوريا، الدولة العربية الوحيدة الباقية تقريبا في حالة حرب مع إسرائيل، بل والداعمة العربية الأولى، والأخيرة أيضا، بالسلاح والمال وغيرهم، للمقاومة الإسلامية في غزة و في لبنان…!!! وهكذا فإن الإخوان المسلمين في مصر بعد صعودهم للسلطة ضبطوا مؤشراتهم على المحطة الإسرائيلية، فأصبح أعداء إسرائيل أعدائها وأصدقائها هم حلفاءها، أم كان هذا بالضبط ثمن صعودهم للسلطة…!! وعلى الرغم من استياء الولاياتالمتحدة البالغ من مسألة إسقاط جماعة الإخوان المسلمين عن السلطة في مصر، وعمل واشنطن بكل قوة على تعويم الجماعة واستردادها للسلطة، مما تسبب في توتر في العلاقات بين واشنطن و القاهرة هو الأشد منذ اربعين عاما، إلا أن الدولة المصرية لم تفكر حتى في التلويح بورقة كامب ديفيد في وجه واشنطن، و أكد المرشح الرئاسي "عبد الفتاح السيسي"، الذي كان فوزه بالرئاسة امرا مفروغا منه، التزام مصر الكامل بالاتفاقية بل و أكد على رسوخها التام في نفوس المصريين، حتى ان إسرائيل نفسها لم تعد تشك أبدا في التزام مصر بها…!!! وهكذا فإن الدولة المصرية أكدت تمسكها التام بالاتفاقية حتى و إن تخلت الولاياتالمتحدة عن التزاماتها، المتضمنة في الاتفاقية تجاه مصر من معونات عسكرية و اقتصادية… ثم كان العدوان الإسرائيلي الوحشي على غزة… وهنا وصلت الأمور إلى الذروة… ومع أن مصر تعتبر تقليديا وسيطا رئيسيا في أي محادثات مع حماس إلا أن حكومة القاهرة فاجأت المقاومة هذه المرة باقتراح وقف لإطلاق النار تجاوب مع كل مطالب إسرائيل، ولكن ليس مع أي مطلب من مطالب المقاومة. وعندما رفضت حركات المقاومة المقترح وصمت بالتعنت وظلت مصر متمسكة بأن مبادرتها هي نقطة البداية لأي نقاش لوقف إطلاق النار. المبادرة لم تكن إلا حيلة لإحراج حماس، فيما أثنت عليها الدول الحليفة لمصر. فقد اتصل العاهل السعودي الملك عبدالله في اليوم التالي على إعلان المبادرة مع الرئيس عبد الفتاح السيسي للترحيب بها. وقال مكتب السيسي في بيان إن المكالمة لم تلق اللوم على إسرائيل بل أشارت إلى "نزيف دم المدنيين الذين يدفعون ثمن مواجهة عسكرية ليسوا مسؤولين عنها". وبحسب خالد الجندي، المستشار السابق للمفاوضين الفلسطينيين والزميل في معهد بروكينغز في واشنطن، "من الواضح أن هناك تلاق في المصالح بين هذه الأنظمة المختلفة وإسرائيل". لقد حمل المسؤولون المصريون حركة حماس مسؤولية العدوان على غزة، إن تصريحا أو تلميحا، بدلا من تحميل إسرائيل مسؤولية موت الفلسطينيين في القتال، حتى عندما تعرضت مدارس الأونروا للقصف الصاروخي وهو أمر تكرر مرة أخرى يوم الأربعاء 30-7-2014. إن وصلات الردح الإعلامي ضد المقاومة، على الأقل في برامج الحوارات المؤيدة للحكومة، كانت متطرفة لدرجة قامت فيها الحكومة الإسرائيلية ببث بعضها إلى غزة. وبحسب طالبة في مدينة غزة تحدثت لصحافي في النيويورك تايمزعبر الهاتف "إنهم يستخدمونها للقول: أنظروا إلى أصدقائكم فإنهم يشجعوننا على قتلكم". وتضيف أن بعض البرامج المؤيدة للحكومة المصرية والتي توجه نحو غزة تدعو الجيش المصري لمساعدة الجيش الإسرائيلي للتخلص من حماس. وبينما كانت الحكومة المصرية مستمرة في إغلاق معبر رفح، وهو ما فاقم من قلة المواد الغذائية والطبية بعد 3 أسابيع من الهجوم الإسرائيلي على غزة، أثارت مصر حنق أهل غزة لمواصلتها إغلاق الأنفاق التي استخدمت لتهريب المواد الغذائية، حيث أعلنت في 27 يوليو، في خضم استمرار إسرائيل بمجازرها، عن تدميره ثلاثة عشر نفقاً بين غزةوسيناء. ثم كان حديث الرئيس "عبد الفتاح السيسي" عن الأزمة الفلسطينية في خطابه في الذكرى الثانية والستين لثورة يوليو. فبالرغم من أن الدم الفلسطيني كان يتدفق أنهارا، فإنه تحدث عن غزة في أخر الخطاب بشكل بالغ البرود والاقتضاب في أقل من دقيقتين ..!!! و فيه ساوى بين المعتدي والمعتدى عليه… وأعاد تشغيل نفس الأسطوانة المباركية المشروخة بإذلال الفلسطينيين بما قدمته مصر… بل وحمل الفلسطينيين مسئولية ستين عاما من انهيار الاقتصاد المصري…!!!! متجاهلًا أننا لم نطلق رصاصة واحدة تجاه إسرائيل أو دفاعا عن فلسطين منذ أكثر من أربعين سنة. وأنه خلال تلك السنوات الطويلة لم نخض أي حرب حقيقية و كانت كل الجبهات ساكنة، وأن السبب الحقيقي لانهيار هذا الاقتصاد، طوال سنوات الهدوء تلك، هو عصابات الفساد والنهب المنظم من الخواجات ورجال الأعمال وكبار موظفي الدولة، وسياسات الدولة التي أفضت إلى ذبح القطاع العام و تفكيك قلاع مصر الصناعية وتحويل الاقتصاد المصري إلى اقتصاد تابع ذليل للغرب. كرر السيسي ذات الجملة الجوفاء التي يصدعونا بها منذ 40 عامًا بأن مصر لا تقبل المزايدة على موقفها من القضية الفلسطينية، والتي كان نظام مبارك يكررها في كل مرة يقوم فيها ببيع فلسطين أو يسليمها إلى المذبح الصهيوني الأمريكي. و استند السيسي في خطابه للرواية "الإسرائيلية"، حين ألمح إلى أن خطف "الإسرائيليين" الثلاثة هو السبب في الحرب، وتجاهل أن اغتصاب الأرض والعدوان المتكرر والاغتيال والاستيطان والأسرى والحصار، هي أصل المشكلة، وكان حريصا على أن يظهر على الحياد، فاستخدم تعبيرات "الاقتتال، والأزمة" وتجنب لفظ العدوان، أي أنه ساوى بين المعتدي و المعتدى عليه. في النهاية فإن الرئيس عبد الفتاح السيسي لم يحاول حتى أن يلطف مما فعله الإعلام المصري من نهش في فلسطين والفلسطينيين، بل كشف عن وجه شديد البرود و التجهم حيال القضية الفلسطينية، وحياد عجيب، أقل ما يقال أنه مخزى، بين الجاني والضحية. لو كان هذا سلوك أو خطاب جديد تجاه القضية الفلسطينية، لقلت أن هذا يكشف عن سياسة عبد الفتاح السيسي تجاهها، لكن الحقيقية فإن كل ما فعله الرجل هو التأكيد على الخط السياسي للدولة المصرية تجاه القضية الفلسطينية منذ أكثر من 35 عاما، بل و أنني أرجح أن تطرف الرجل الذائد في التشديد على هذا الخط، نابع من إحساسه بأن ما يجري في غزة يحمل أول اختبار له و هو على كرسي الرئاسة ، لبيان مدى التزامه باتفاقية كامب ديفيد، روحا و معنى قبل النصوص، فأراد أن يثبت بكل ما يستطيع أنه لا يوجد حتى شبه انحراف، و لو بسيط عنها، بل ربما التزام يفوق ما سبق…!!! الأكيد أن نقد هذا التعليق والتحليل السابق، سيأتي من زاوية أنه تجاهل ما فعلته حركة حماس الفلسطينية بمصر جيشا وشرطة وشعبا، إنه تعليق يتجاهل اقتحام حركة حماس للسجون المصرية يوم 28 يناير 2011م، وتهريب أعضاء مكتب الإرشاد وعلى رأسهم "محمد مرسي العياط" المحبوس وقتها على قضية تخابر مع الولاياتالمتحدة، يتجاهل ما قدمته حركة حماس لعناصر بيت المقدس التي استهدفت ضباط وجنود الجيش المصري في سيناء، وتهديدها للأمن الوطني المصري. و في الحقيقية فأنا لست من هؤلاء الذين ينفون تورط حماس في الإضرار بمصر، فأنا على يقين من أن حماس تتحمل مسئولية كبيرة بما لحق مصر من إرهاب أسود وأذى، ولكني هنا أريد أن أؤكد أن ما فعلته حماس ليس مبررا للتخلي عن الفلسطينيين جميعهم، هو فقط يتخذ كتكأة لتبرير تلك السياسة القديمة – المتجددة تجاه القضية الفلسطينية. وفي هذا سأذكر نقطتين فقط:- أولا:- إن سوريا مثلا، كان نصيبها من غدر حماس أضعاف أضعاف ما لحق بمصر، فعلى العكس من مصر، شكلت سوريا الملجأ الآمن لقيادات حماس، حيث كانوا يقيمون في دمشق في منتهى الحرية و الأمان تحت حماية أجهزة الأمن السورية، وكانت عائلتهم تحصل على كل أنواع الدعم والرعاية والحماية، هذا بالطبع غير ما هو معروف من الدعم السوري التسليحي والمالي واللوجستي لحركة حماس باعتبارها حركة مقاومة فلسطينية، والجميع يعرف ما رفضته سوريا من إغراءات عظيمة وضغوط عنيفة من أجل التخلي عن حماس. وبالرغم من كل ذلك لم تكتف حماس بموقف المشاهد أو المحايد من الحرب على سوريا، بل وشاركت بالرجال والسلاح والدعم في هذه الحرب، لم تراعي حماس كل ما قدمته دمشق لها، وانخرطت في الحرب ضدها لأنها اعتبرت أن انتمائها لجماعة الإخوان المسلمين فوق أي اعتبار. يكفي فقط أن تقنية حفر الأنفاق التي لقنها إياها و درب حزب الله و سوريا حركة حماس عليها، كأداة لمقاومة الاحتلال لإسرائيلي، نقلتها حماس بالكامل لمرتزقة الحرب ضد سوريا، واستخدمها هؤلاء المرتزقة في النيل من الآلاف من رجال الجيش العربي السوري ومعسكراته وتحصيناته و مبانيه بل و من تراث سوريا الإنساني ذاته، و ما فعلته حماس بمخيم اليرموك من فتح أبوابه لعناصر جبهة النصرة التكفيرية و تدريبها أيها و احتضانها. لكن سوريا وقت العدوان على غزة، ابتعلت كل آلامها و أعلنت تضامنها الكامل الغير المشروط مع غزة، و عبرت عن اعتزازها بصواريخها التي تنطلق من غزة لتدك المستوطنات الإسرائيلية و تصل إلى تل أبيب و إلى ما وراءها، ذلك لأن سوريا تعرف و تدرك جيدا أن التضامن العربي مع فلسطين فوق أي اعتبار آخر، و أنه لا يمكن أخذ أهلنا في غزة أو في فلسطين عموما بجريرة فصيل وحركة أو سلطة مهما كبر شأنها أو عظم. ثانيا:- في الحقيقية فإن موقف عداء الدولة المصرية لحركة حماس سابق لما فعلته في مصر، وذلك نابع بالأساس من عداءها المتأصل منذ ثلث قرن لكل من يرفض أتخاذ طريق الاعتراف بإسرائيل والمفاوضات كسبيل وحيد و أوحد لحل القضية الفلسطينية. ربما كان يجب أن نتذكر الانقلاب والعداء الذي شهدته الدولة المصرية ضد حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية منذ أواخر السبعينيات، و ذلك لعدم اعترافهم و أتخاذهم طريق المفاوضات و التسوية كطريق أوحد لحل القضية الفلسطينية، وانحصرت كل علاقة الدولة المصرية مع المنظمة في الضغط عليها للقبول بطريق التفاوض و دعم و تشجيع العناصر التي تدعم هذا الخيار داخل الحركة و المنظمة، و لم ترضى عنهم إلا بعد خضعوهم لأطروحتها و طريقها. و هل ننسى انه في ثمانينات القرن المنصرم، عندما فرضت إسرائيل على الولاياتالمتحدة موضوع عقد معاهدة صلح بين إسرائيل و لبنان، بعد طرد منظمة التحرير الفلسطينية منها، تلحق بالمعاهدة المصرية – الإسرائيلية، فإن الدولة المصرية التقطت الإشارة الإسرائيلية – الأمريكية و شجعت هذا الاتجاه، بل إنها وصلت إلى حد أن أصبح شعارها في وجه معارضة سوريا لصلح لبناني إسرائيلي منفرد – هو التوجه إلى الرئيس "حافظ الأسد" كل يوم بشعار "ارفعوا ايديكم عن لبنان"…!!! و تجاوزت الأمور حد الشعارات حينما بدأت الدولة المصرية تنظم حلقات دراسية للمفاوضين اللبنانيين تنقل إليهم من خلالها تجربتها في التفاوض مع إسرائيل، و تزيدهم علما فيما توصلت إليه بتجربتها السابقة على الجميع في التعامل مع المفاوض الإسرائيلي..!!! ربما لاحظ القارئ إصراري على استخدام تعبير الدولة المصرية طوال السطور الماضية وليس مصر، وذلك لأنني أفرق بشدة بين طبقة سياسية- اجتماعية تهيمن على رأس السلطة و مفاصل الدولة في مصر، يسري في دمها كامب ديفيد، و التيارات الوطنية و القومية و الكتل الشعبية المصرية التي تسعى إلى التخلص من كامب ديفيد و الخروج من أسرها…فكامب ديفيد هي الطارئ على السياسة و العقل المصري و ليس الأصيل، فالمقاومة كانت مشروع مصري بالأساس. عندما كانت مصر تأخذ دورا رئيسيا في الصراع العربي – الإسرائيلي، كانت حريصة على أن تظل النقطة المباشرة للصراع مذكورة لا تضيع، ومرئية لا تختفي – بمعنى أنه كان لا بد للبؤرة الفلسطينية التي يدور حولها الصراع العربي – الإسرائيلي أن تظل ظاهرة بملامحها و قسماتها. و هكذا فقد كانت هناك محاولات مصرية مستمرة لإبراز الوجه الفلسطيني في الصراع، و كان ذلك يعني أن هذا الوجه نفسه – فلسطين – يجب أن يكون له كيان محدد، موجود و مستقل. وفي مؤتمر القمة العربي الأول في القاهرة – يناير 1964- تقدمت مصر باقتراح إنشاء كيان فلسطيني مستقل باسم منظمة تحرير فلسطين، و كان الاسم إلى جانب تجسيده للكيان يجمل إشارة لها قيمتها في عصر تعددت فيه حركات تحرير الشعوب. و على الرغم من أن حركة فتح كانت أحد أذرع توريط مصر في حرب 67، إلا أن القاهرة احتضنت حركة فتح، فأعترف جمال عبد الناصر بها، و أعطها شرعية منحتها مكانة تقدمت بها على غيرها من المنظمات الفلسطينية، ووفر عبد الناصر كل المساعدات و الدعم الممكن لفتح في مقابل مطلب واحد، وهو أن تنطلق ولو رصاصة واحدة كل يوم في الأرض المحتلة بحيث يسمع صوتها و يذيع خبرها، ويكون ذلك رمزا لوجود مقاومة فلسطينية في الأرض المحتلة. و بالفعل فقد تم تكليف اللواء محمد أحمد صادق، وهو مدير المخابرات العسكرية في ذلك الوقت (ووزير الحربية فيما بعد) بلقاء قادة فتح و التنسيق معهم فيما يحتاجون إليه في مجالات التسليح و التدريب و التمويل. أي أنه في الحقيقية فإن مصر كانت هي القابلة التي أخرجت المقاومة الفلسطينية إلى الوجود، و لم تنظر إليها القاهرة وقتها كأداة لتحرير الأرض، بل كصوت للشعب الفلسطيني يؤرق العدو الصهيوني و يذكر العالم بالحق الفلسطيني و حقيقية العدوان المستمر و المجرم عليه. كان احتضان مصر للمقاومة الفلسطينية كامل، و ربما كانت كلمات "جمال عبد الناصر" إلى ملك الأردن "حسين" في لقاء رأس التين بالإسكندرية – أغسطس 1970، تمثل أفضل تلخيص لسياسة مصر تجاه القضية الفلسطينية في ذلك الوقت، حيث قال له نصا: " أنا أفرق دائما بين القضية الفلسطينية و هي مسئوليتنا جميعا، وبين مواقف أي عناصر فلسطينية بالذات. و رأيي أن قضية فلسطين أكبر من أي فيصل فلسطيني، و لهذا فإن علينا مسئولية المحافظة عليهم و حمايتهم حتى من أنفسهم" ربما يظن القارئ أن عنوان المقال "كامب ديفيد تسري في دمك" يشير إلى الرئيس "عبد الفتاح السيسي"، في الحقيقة فإنه ليس المقصود عبد الفتاح السيسي بقدر ما هو مقصود تلك الطبقة السياسية التي تمكنت من الحكم في مصر منذ سبعينيات القرن الماضي… فكامب ديفيد ليست مجرد اتفاقية، بل منظومة سياسية – اقتصادية – اجتماعية كاملة، بدأت في التشكل والنمو قبل كامب ديفيد، والأرجح أنه لم يكن من الممكن الذهاب إلى تلك الاتفاقية بدون خلق تلك المنظومة وتمكينها، ووجدت تلك المنظومة شرعيتها بعد ذلك في كامب ديفيد، فهي التي سعت إليها لكي تبرر سبب وجدوها و تفتح بقية الطريق لاستكمال تمكنها و سيطرتها على كل مفاصل الحياة في مصر، حتى دخلنا في مرحلة أن الأنظمة تزول و لكن كامب ديفيد باقية، متجاوزة الأنظمة التي خلقتها ثم راعتها، فارضة نفسها كأساس غير ممكن تجاوزه، لذلك بمنتهى الصراحة لا أفق و لا سبيل لتغيير حقيقي في مصر على أي مستوى دون تجاوز تلك الاتفاقية و التحرر منها، دون ذلك فإن الحديث عن أي تغيير يعتبر من قبيل الوهم الذي يطمئن نفسه بالسراب. إن أي حديث عن دور مصري دولي أو حتى إقليمي، في غياب تصدي مصري جاد وحقيقي لمسألة تحرير فلسطين، هو محض هراء و ضحك على العقول و خداع من الطبقة الحاكمة لنفسها قبل خدعها للشعب، فمضي مصر في طريق كامب ديفيد ترافق مع انهيار دورها المحوري في المنطقة والعالم، بل وأستخدمها في التخديم على سياسات ومطالب قوى عالمية بل وإقليمية، فأخذت في التحول شيئا فشيء من شجرة راسخة ضاربة بجذورها في أرض الإقليم، تصوغ عقله و روحه بخطها التحرري المقاوم و نبع حضارتها الدافق، إلى خشبة هائمة في بحار ومحيطات التاريخ، يمتطيها من يريد و يوجهها إلى ما يخدم سياساته العدوانية والإمبريالية والرجعية. عشرات السنين ونحن نستجدي السلام من إسرائيل، حتى وصل الأمر إلى أن الدول العربية تقدمت بمبادرة سلام عام 2002 تنازلت فيها عن اكثر من ثمانين في المئة من ارض فلسطين التاريخية، مقابل دولة فلسطينية هزيلة تقام على العشرين في المئة المتبقية، والاعتراف بالكيان الاسرائيلي، والتطبيع الكامل معه في المقابل، وعندما احتقرت اسرائيل هذه المبادرة، وواصلت ابتزازها التاريخي في طلب المزيد من التنازلات تحت حجج واعذار واهية، ماذا فعل عرب الاعتدال وجامعتهم؟ واصلوا التطبيع السري والعلني مع اسرائيل، وتواطأوا مع عدوانها الاخير على قطاع غزة، ولم تقم حكومة الرئيس السيسي بأي ضغط على اسرائيل، مثل كل الحكومات المصرية السابقة، ولو باستدعاء السفير الاسرائيلي في القاهرة وتقديم احتجاج قوي على هذا العدوان، ولا نقول طرده واغلاق سفارته، وهذا التراخي، وعدم الارتقاء الى مستوى دماء الشهداء في غزة يمتد الى الاردن ودول عربية اخرى. في الحقيقية فإن أبلغ تعليق على سعي العرب على توقيع الاتفاقات مع إسرائيل، هو ما جاء، ويا المفارقة، على لسان مؤسس دولة إسرائيل ديفيد بن جوريون ، وهو ذلك التعليق الذي أوردناه في مقدمة هذه المقالة، حيث أشار فيه صراحة أن دولة إسرائيل قامت على سرقة الأرض من العرب، و ليس هناك من أي سبب منطقي أو عقلاني يدعو العرب إلى الاعتراف بهذه السرقة، أو بمعنى أدق الاعتراف بإسرائيل و شرعنة وجودها… لقد قيل الكثير من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية و ثقافية في فهم وتفسير دوافع انضمام الشباب إلى المنظمات التكفيرية و الجهادية، منها ما يتعلق بانتشار الفقر والتهميش و العوز والبطالة، أو ما يتعلق بفكر رجعي متخلف مازالت يتغذى عليه العقل العربي، و كل هذه الأسباب مفهومة و حقيقية إلى أبعد مدى، لكن قبلها كلاها يأتي السبب الأول و الرئيسي، و هو حالة الانبطاح والاستسلام العربي للعدو الصهيوني، إننا هنا لا نتحدث عن أمة طارئة أو جديدة على الزمان و التاريخ، بل أمة ضاربة بجذور قوية و راسخة في هذا التاريخ، أمة يعرف شعبها جيدا ما تعنيه العزة و الكرامة، و يأبى شعبها و أجيلها الجديدة هذا الانبطاح المذل عند أقدام الإسرائيلي و المرمغة في أوحال الاستسلام للإمبريالية العالمية و وكيلها الإسرائيلي في المنطقة، هذا الفقر الحاد في الكرامة العربية هو الدافع الأول و الأساسي لانتعاش الفكر التكفيري و رفده بمدد متجدد من الشباب الساخط الغاضب… إذا لم يتم إعادة توجيه هذه الكتلة الملتهبة من مشاعر السخط و الغضب تجاه العدو الحقيقي الذي يستحقها، إذا تم الاستمرار في سياسات الاستسلام و الرجاء و استجداء العدو الصهيوني، أي أنه من الاخر، كما نقول في مصر، اذا كان الرئيس السيسي يريد قطع الطريق على الجماعات الاسلامية المتشددة عليه ان لا يوفر لها المدد هو نفسه، من خلال التخلي عن المقاومة، واستمرار الحصار على قطاع غزة، واغلاق معبر رفح الذي تحول وضعه الى الاسوأ منذ توقيع اتفاق وقف اطلاق النار في مفاوضات استضافتها بلاده قبل ما يقرب من الشهر. إذا كان السيسي جادا في تجفيف منابع الإرهاب، عليه أن يعمل بسرعة و قوة و حسم على التخلص من اتفاقية كامب ديفيد، أليس واضحا أن الدعاية الأولى التي يعتمد عليها الإسلاميون في محاربته هي أن الجيش المصري هو جيش كامب ديفيد، هو الجيش الذي يضع أمان و سلامة الكيان الصهيوني على رأس أولوياته…!! متى يسحب السيسي تلك الورقة القاتلة من يد الجهاديين و التكفيريين، و يعريهم أمام أنفسهم و أمام الشعب..؟؟!!! أما إذا أصرت الدولة المصرية على المضي في نفس الطريق الذي فيه منذ أكثر من ثلث قرن، فإن دولة الخليفة البغدادي الاسلامية سترحب قطعا بمثل هذه السياسات المصرية لأنها مصعدها السريع ليس للوصول الى غزة فقط، وانما الى سيناء، وكل مصر، ان لم تكن قد وصلت فعلا. كما أنه لن يكون لمصر دور مؤثر في العالم إلا من خلال دورها و تأثيرها في هذه المنطقة، أو بمعنى أدق قيادتها للمنطقة العربية، فإنه لا سبيل إلى هذه القيادة الحقيقية، و ليست تلك الزائفة الدعائية التي يطنطن بها إعلام كامب ديفيد العفن، إلا عبر بوابة استرداد فلسطين للعرب، كما قال الراحل الكبير صاحب شخصية مصر "جمال حمدان"، فإذا كانت القيادة و الزعامة مسئولية تمارس وواجبا من القيادة يحقق، كما أوضح مفكرنا العظيم، فإنه لا زعامة لمصر بين العرب بغير استردادها فلسطين للعرب، لأنه لا وحدة للعرب أصلا بدون استرداد فلسطين. و رحم الله من أدرك و فهم كيف يكون سبيل مصر الحقيقي للتقدم و القيادة و الريادة. *عنوان المقال مستوحى من كتاب "التطبيع يسري في دمك" للكاتب و المناضل الفلسطيني الكبير "عادل سمارة"