في المسيرة التلحينية للقصيدة العربية، يتبوأ رياض السنباطي موقع الصدارة، فمن بعد جهود أبو العلا محمد، وإسهامه الضخم في تلحين عيون الشعر العربي، لم يعط أحد القصيدة مثلما أعطاها السنباطي، الذي وجد في صوت أم كلثوم منصة للتحليق عاليا، ورفع شواهقه إلى الذرى. عرف السنباطي أم كلثوم منتصف الثلاثينات، حيث بدت ثمرات عصر النهضة ناضجة، تنادي من يقطفها، ويعيد إنتاجها.. موسيقيا، كان قالب الدور قد أخذ طريقه نحو الذبول والانطفاء، يتجنبه رافعو راية التجديد، ويتحاشاه من لا قدرة له على التعامل مع صناعة تلحينية وغنائية ثقيلة، بعد أن ظل أهم قوالب الغناء العربي لنحو قرن كامل، وبنهاية الأربعينات، انتهى "الدور"، وكان لأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب النصيب الأكبر في القضاء عليه، لحساب قوالب أخرى، كان "المنولوج" من أهمها، بعدما قرر القصبجي أن يسيده على ما دونه من قوالب الغناء. والقصبجي، كان كبيرهم الذي علمهم السحر، كلهم يتأثرون به، وكلهم يلهثون خلف "تجديداته" ورؤاه الحداثية التي تمزج بين روح شرقية هي الأصل والأساس، وبين مسحة غربية اختلف الناس حول ضرورتها ومقدارها، وكان للسنباطي نصيبه من التأثر بالقصبجي، وبأساليبه في المعالجة المقامية، وفي اختيار الإيقاعات، نجد هذا جليا في "افرح يا قلبي"، التي يمكن اعتبارها لحنا قصبجيا صرفا نفذه السنباطي، الذي امتد تأثره بالقصبجي إلى "غلبت أصالح" بقدر كبير، و"جددت حبك" بمقدار أقل. لكن الأمر يختلف تماما عند الحديث عن القصيدة، التي أولاها السنباطي عناية فائقة، وطبعها ببصمته الخاصة، ورسم لها مسارا يتسم بالجدية والصرامة ومتانة البناء، فجاءت ألحانه لهذا القالب كأنها الجبال الرواسي، تحرس عالم النغم، وتحتمي بها الموسيقى الشرقية من كل محاولات التغريب، ومسخ الهوية الموسيقية العربية أو إضعافها. ومن المدهش أن السنباطي أمسى سيد ملحني القصيدة العربية وهو مازال شابا، فبين منتصف الأربعينات وأوائل الخمسينات، كان الرجل قد أنجز ألحانا لقصائد من وزن سلوا قلبي، ولد الهدى، رباعيات الخيام، نهج البردة، النيل، مصر تتحدث عن نفسها، إلى عرفات الله.. وكل عمل منها يقف شاهدا على سيادة السنباطي وريادته وتمكنه، ولا يفوتنا أنه قدم شاهدا مبكرا على مقدرته في تلحين القصائد الصعبة، حين وضع لحنه الخالد لقصيدة سلوا كؤوس الطلا عام 1937. امتدت رحلة السنباطي مع القصيدة، وعبر صوت أم كلثوم الجبار، قدم مزيدا من الصروح الخالدة: ذكريات، أغار من نسمة الجنوب، قصة الأمس، ثورة الشك، الأطلال، أراك عصي الدمع، حديث الروح، أقبل الليل، من أجل عينيك. وعند كل حديث عن السنباطي، يدور السؤال القديم المتجدد، أبلغ السنباطي مكانته بعبقريته المحضة؟ أم كان الصوت الكلثومي هو معراجه لهذه الآفاق العليا؟، والحقيقة أنه لا يحسن التعامل مع صوت كوكب الغناء إلا العباقرة، ولا يختلف اثنان في دنيا السمع، ودولة الطرب، أن السنباطي هو أعظم من تعامل مع هذه الحنجرة، ووظف قدراتها الخارقة، في أعمال طويلة، وقصائد صعبة. على أن التدليل على مكانة السنباطي في تلحين القصيدة بعيدا عن أم كلثوم سهل وميسور، ويكفينا فيه الاستماع إلى ما لحنه لنفسه ولعدد من المطربات.. استمع معي قصيدة لا تقل لي ضاع حبي من يدي، التي لحنها في أواخر حياته للسيدة وردة، وهي لحن عملاق، أكد به السنباطي أن تقدم السن لم يضعف من قريحته الموسيقية المتدفقة، لكني أزعم أن أداء وردة للقصيدة لم يكن على مستوى اللحن، ويتأكد هذا بالاستماع إلى السنباطي نفسه وهو يؤدي القصيدة على عوده، خلال لقائه الشهير بتلفيزيون دولة الكويت، فجاء أداؤه –رغم المرض- مجسدا لخبرة السنين، وتفوق عوده على فرقة موسيقية كاملة. أما لحنه لقصيدة "أشواق" فهو عمل ضخم فريد، يضارع الأطلال، وربما يفوقها، فهو لحن حوى الكمال من أطرافه، ويمثل شاهدا مضيئا على تمكن السنباطي من التعامل مع الشعر العربي، تعبيرا وتطريبا وقوة سبك ومتانة بناء، ومازال الدارسون والنقاد يتناولونه بالتأمل والتحليل، فلا ينتهون إلا إلى الإشادة والتبجيل. ومن بدائعه في تلحين القصيدة، لنفسه أو لمطربين ومطربات غير أم كلثوم: آه لو تدري بحالي، وفجر، وأصابعي منك، التي غناها بنفسه، وحديث العيون، وقرطبة الغراء لأسمهان، وكم كنت أرجو وصلكم، ويا قلب غدا نفترق، لصالح عبد الحي، ويا ساعة الصفو، وفي الهوى قلبي زورق، لنادرة أمين، وكلاهما من كلمات العقاد، وإذا الشعب يوما، لسعاد محمد، وقولوا له روحي فداه، لعبدالمطلب، وهي من نظم أمير الشعراء. إن ما قدمه السنباطي للقصيدة المغناة كان سببا رئيسا لاستمرار هذا القالب، وانتشاره، وقبول الملايين له، بعدما لانت لموسيقاه قصائد صعبة، ونصوصا عصية على التطويع النغمي، فقدمها مغلفة بإطاره الصوفي، ومطبوعة بفكره الموسيقي الفلسفي، فتلقاها العالم العربي كله بالإعجاب والإجلال، وعاشت باقية لا يزيدها الزمن إلا شموخا.