بات واضحا أن "العروبة" عادت لسيرتها ومسيرتها قبل جمال عبد الناصر وبعد رحيله، إذ كانت العروبة في وجوده لها حيويتها ويعمل أعداؤها لها ألف حساب، بل لم يكن أي سياسي عربي يجرؤ على الجهر باتخاذ سياسات أو مواقف معادية للعروبة حتى ولو أراد، خشية عقاب الأمة له في ظل حماية عبد الناصر. وتتمثل هذه السيرة والمسيرة في عدم القدرة على اتخاذ موقف عربي واحد تجاه القضايا المصيرية للأمة العربية وفي القلب منها قضية فلسطين. وأحد الأسباب وراء هذا التخاذل يعود في جانب منه إلى ميثاق الجامعة العربية الذي يحول دون اتخاذ موقف عروبي واحد، ذلك أن قاعدة التصويت في هذا الميثاق لا تسمح للأغلبية أن تفرض رأيها على الأقلية كما هو معمول به في سائر المنظمات والمجالس الدولية والمحلية والإقليمية، فميثاق الجامعة ينص على أن قرارات مجلسها ملزمة لمن يقبلها فقط أغلبية كانوا أو أقلية، وبالتالي لا يمكن أن تجد موقف عربي موحد في مواجهة أعداء الأمة. ومن عجب أن كل المحاولات التي بذلتها بعض دول الجامعة لتغيير قاعدة التصويت لتكون بالأغلبية باءت بالفشل. ومن هنا ابتكر جمال عبد الناصر منهج مؤتمرات القمة العربية حتى يلزم الزعماء العرب أمام شعوبهم بعيدا عن قاعدة التصويت المعيبة على مستوى المندوبين في الجامعة. والمادة الثامنة من الميثاق تنص على أن تتعهد دول الجامعة بألا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير نظام الحكم في إحدى الدول الأعضاء، وهذا يعني تكريس التجزئة والعزلة والانفراد، لكن عبد الناصر تجاوز هذه المادة من أجل تحقيق التحرر السياسي والاجتماعي في دول الجامعة على طريق الوحدة. وبعد رحيله رأينا أن كثيرا من دول الجامعة تتجاوز هذه المادة خدمة للأجندة الأمريكية-الإسرائيلية في المنطقة, وذلك عندما سمحت لنفسها بالموافقة على تدخل حلف الأطلنطي عسكريا في ليبيا لإسقاط القذافي، وفي تونس لإسقاط زين العابدين علي. ومن قبل ذلك دعم التدخل الأمريكي لإسقاط صدام حسين (مارس-أبريل 2003)، والإسهام في محاصرة سوريا منذ مارس 2011 لإسقاط حكم بشار الأسد. ورغم أن المادة (10) من معاهدة الدفاع العربي المشترك (يونية1950) تنص على تعهد دول الجامعة بعدم عقد اتفاق دولي يناقضها، إلا أن نوري السعيد رئيس حكومة العراق دخل في حلف بغداد (فبراير 1955) استجابة لأمريكا، وهو ذلك الحلف الذي رفضه جمال عبد الناصر في مارس 1953 حفاظا على استقلالية الأمة العربية زمن الحرب الباردة. ثم كرر السادات ما فعله نوري السعيد من حيث تجاوز المادة العاشرة حين عقد معاهدة مع إسرائيل في 26 مارس 1979 تتضمن شروطا تتناقض مع أهداف العروبة من حيث الإلتزام بعدم تأييد نشاط يعادي إسرائيل (المادة 3)، واعترافه بإيجاد حكم ذاتي للفلسطينيين تحت سيادة إسرائيل وليس إقامة "دولة فلسطينية"، وقد سار على خطاه ياسر عرفات بقبوله إنشاء "السلطة الوطنية الفلسطينية" طبقا لمقررات أوسلو (1993) حيث تبين أنها هذه أشبه بمحافظة لفلسطينيي الضفة وغزة داخل إسرائيل. وقد مهد ملك الأردن لذلك بإعلان فك ارتباط الضفة الغربيةبالأردن (عام 1988) أي قبل عامين من مؤتمر مدريد (1990) الذي قاد الجميع إلى أوسلو، ثم عقد الملك معاهدة وادي عربة مع إسرائيل (اكتوبر 1994) على موديل اتفاقية السادات-بيجن. وفي هذا الخصوص يلاحظ أن جمال عبد الناصر حدد علاقاته بالدول الخارجية على أساس موقفها من قضية فلسطين. ولهذا فمبجرد قيام ألمانياالغربية في 1965 بدفع تعويضات لإسرائيل عن "المحرقة اليهودية"، أسرع بقطع علاقة مصر بألمانيا دون تفاهم أو عتاب. وأكثر من هذا أن دولا أفريقية قطعت علاقاتها مع إسرائيل تقديرا لدور جمال عبد الناصر في تبني حركة التحرر العالمية من الاستعمار انطلاقا من مقررات مؤتمر باندونج (أبريل 1955)، وكانت إسرائيل تعمل على محاصرة العروبة بتقوية علاقاتها مع الدول المتاخمة للأمة العربية وهي تركيا وإيران (زمن حكم الشاه) والحبشة، فكسر عبد الناصر هذا الحصار. ولهذا لم يكن غريبا أن تعيد الدول الأفريقية علاقاتها مع إسرائيل بمجرد اتفاق السادات مع بيجن (مارس 1979). وحتى على المستوى الإقتصادي يفشل العرب في التمسك برداء العروبة لأنهم أخضعوا بلادهم لاستراتيجية السوق الرأسمالي العالمي، وذهبت هباء كل جهود المفكرين الاقتصاديين العرب منذ عام 1933 (عصبة العمل القومي) لكسر الحواجز الجمركية بين البلاد العربية على أمل تحقيق السوق العربية المشتركة والوحدة الاقتصادية. وبرغم إنشاء المجلس الاقتصادي العربي عام 1950 كجزء من معاهدة الدفاع العربي المشترك، ثم مجلس الوحدة الاقتصادية العربية (1963)، إلا أن النظم العربية تتجاوز تلك الأطر وتفضل التوسع في المشروعات العربية المشتركة بدلا من التوحد الاقتصادي من أجل التنمية الحقيقية. وآخر مظاهر التفكك العربي اجتماع مكتب المقاطعة العربية لإسرائيل (24-27 أغسطس 2014) بمشاركة ممثلين من جميع الدول العربية ما عدا التي ارتبطت مع إسرائيل بمعاهدة "سلام" وهي مصر والأردن. والحال كذلك .. كيف يتحقق الموقف العربي الواحد..؟؟