يرى الرئيس عبدالفتاح السيسي في مشروع قناة سويس جديدة حلما جديدا يقيل مصر من أزمتها الطاحنة ويعيد تقديمها للعالم كوجهة اقتصادية واعدة، لكنه يدرك ويتمنى أيضا وكما يفهم من حوله أنه يسعي نحو حفر مجرى جديد في أحلام الزعامة والمجد الشخصي، يعيد به وصل ما انقطع من تاريخ مصر منذ محمد علي باشا، وصولا الى الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، ليس في ذلك عيب فهو في ظني حلم شخصي مشروع بل ومطلوب أيضا، خاصة إذا تلامست أسلاك ذلك الحلم الشخصي للسيسي بالطموح المصري العام بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو، وحبذا لو وصلت تلك الحالة المزاجة الى قمتها مع ذوبان الحدود بين الحلم والطموح على أرض الواقع. يقول هاري إدوارد "علينا أن نتعلم كيف نحلم وأعيننا مفتوحة"، ولا أشك في أن عيون السيسي ستظل مفتوحة وهو يحلم وينتظر مستقبله في كتاب التاريخ ومستقبل مصر في عيون عالمها، لكن وحتى لا ننسى فإن من أحلام اليقظة ما قد يأتي على غير ما يتوقع الإنسان ليدفعه لإعادة حساباته، فقد تفاجئه إشارات القدر بموقف عابر ملهم أو صدمة مبكرة مؤلمة أو كلمة مؤثرة معبرة، أو ربما وفي الحالة المصرية رقم قادم من أمجاد العسكرية يعيد الاعتبار لذاكرة تم تزييفها، فتكون المواجهة مع (5037334) ذلك الرقم العسكري للجندي شهيد حرب أكتوبر محمد أحمد حسن عطوة، هي ذروة الدراما الإنسانية عندما تتعقد الحبكة وترتبك الحسابات لصالح نهاية وحيدة تفرضها قصة كفاح شعب. منذ بضعة أشهر وعد السيسي المصريين بالحلم، وبأن مصر ستكون (أم الدنيا .. وأد الدنيا)، وبشرهم ب( كامب ديفيد المستقرة)، وأن عقود مما يراه سلاما مع الكيان وفرت الاستقرار لصالح أحاديث المستقبل، لكن ما لم يدر بخلد السيسي أن رمال مشروع عمره في السويس تخبئ له وبرمزية قدرية متقنة رفاة و"زمزمية" و"بيادة" الجندي عطوة، لتصطدم أول خطوات الحلم بالمستقبل بجمجمة شهيد حرب أكتوبر وتضحياته، وتعاند وديعة التاريخ رؤية السيسى مع أول ضربة فأس، وتدخل معه في لعبة تناطح "الرؤوس الناشفة" منذرة بأن الحفر لبناء أساسات المستقبل رهن لعدم البناء المطمئن على صراع مستمر وسلام غير مستقر في جوهره مع الكيان، حتى وإن سكتت أصوات مدافع واعتلى فوهاتها الصدأ، فميراث الدم والحروب لن يصبح ماء ونفط وغاز بجرة قلم, والحلم لن يستقر ببصمة كلامية على أوهام السادات التي أهدرت دماء شهداء مصر، وقزمت مصر مع خليفته مبارك! ليمض السيسي في المشروع، فهذا هو حلمنا معشر المصريين اليوم بوطن يلامس أفلاك النجوم، لكن الخشية من ألا تفسر الحلم رسالة الرمال المروية بالدماء، أو ان يستنزف رصيد التاريخ دروسه وعبره، بالقراءة بطريقة انتقائية، وإدراك ما جارى الهوى من فصوله، واجتزاء التجارب من سياقاتها، حينها فقط سيبقى المشروع والحلم فاقد الذاكرة وبلا هوية أو طاقة تحركه، ولا أشك في أنه سرعان ما ستنقطع أسلاك الحماس عن الطموح، ليلحق المشروع بما سبقه من مشروعات بنت نفسها على أكذوبة الاستقرار، فيما ينخر أساساتها جواسيس الصهاينة وطابورهم الخامس من ظهر منهم ومن بطن. لن يحتاج حفر القناة الجديدة فقط الى سياط أو معاول ومعدات ضخمة، بل الأوقع هو القول بحاجته الى سلاح مستقل يحمي، وعقيدة تدرك أن إسرائيل هي العدو الأول والخطر الأوحد على أي مشروع نهضوي مصري، وأن السياق العام لسياسات ومؤسسات ما تزال تحفظ مكانة خاصة ل(كامب ديفيد) وتوفر البيئة الحاضنة لأدوات التطبيع لن تأتي بمحصلة نهضوية حقيقية، ففي استمرار ذلك النهج إزدواجية تتعامى عن الواقع وتدفن الرؤوس في الرمال كالنعام، وحسبي في هذا السياق الحديث عن أجيال تستعد لحمل راية المستقبل، فيما يغيب عن ذهنيتها طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، حتى صار عدوها هو الوكيل الإخواني الداعشي، ولم يعد يعنيها دور العدو الحقيقي والأصيل، وهو كيان تدار لصالحه كل صراعات المنطقة، وتوظف كل أدوات الفوضى لصالح بقائه واستمراره كابوسا في واقع هذه الأمة وعائقا لنهضتها. فهم عبدالناصر ومن قبله بعقود طوال محمد علي وديعة التاريخ في رمال مصر، والتي تتفجر منها آبار العمل والبناء وينابيع التضحية والفداء في ساعات الكروب والمحن، لتهدي مسار الشرق دروسا استثنائية في عبقرية المكان والمكانة حينما يكون ثمن الفاتورة جاهزا حتى وإن كان مكلفا، فكانت بداية الحلم يقظة لمطامع ما وراء الحدود الشرقية، وكانت بداية البناء هي التأسيس على دروس وعبر وأدوار لا يمكن تجاهلها، أو الهروب من استحقاقاتها بحجة الاستقرار، فمن الاستقرار ما كان على فوهة بركان غضب، خاصة إذا كان هذا الغضب من تاريخ طويل من القتل والإرهاب الصهيوني لن تمحوه اتفاقيات أو تفاهمات!