منذ بدأت الوجودية تتطرق إلى الفكر العربي المعاصر على يد عبد الرحمن بدوي بشكل أساسي وهي تُبحَث في صورتها المذهبية، أي المحتوى النظري، وليس المنهج الذي اتبعه الوجوديون في تحليل الظواهر الإنسانية. ومن خلال كتابات بدوي التي حاولت العثور على نظير للتجربة الوجودية في الفكر الإسلامي القديم في التصوف بشكل خاص، كما خصص فصلاً في كتابه "الإنسانية والوجودية في الفكر العربي" لبحث التصوف من هذه الوجهة، وجدت الوجودية لنفسها حيزًا في أحد أهم أركان التراث الإسلامي التقليدي. وسوى محاولة بدوي الهامة ظهرت الوجودية في شكلها المعاصر عند المثقفين والأدباء العرب دون محاولة ربطها بالتراث، أي في صورتها المذهبية أيضًا. وظل المنهج غائبًا عن محاولة تطبيقه على الظواهر الإنسانية تقريبًا، باستثناء واحد هام، هو مشروع التراث والتجديد لحسن حنفي، الذي حاول فيه تطبيق المنهج الظاهرياتي (الفينومينولوجي) على العلوم الإسلامية، باعتبارها تجاربَ شعورية، وقد يكون أهم هذه التطبيقات بحثه الهام في علم أصول الفقه (من النص إلى الواقع)، بالإضافة إلى محاولاته المتعددة في تطبيق هذا المنهج على القرآن تطبيقًا عمليًا. وفي الحقيقة فإن أهمية الوجودية الأساسية تكمن في منهجها أكثر من المذهب الذي اختلف من وجودي إلى آخَر. فقد حققت علوم التفسير قفزة هامة مع الوجودية، وخاصة مع الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر، منذ كتابه الأساسي (الكينونة والزمان)، وخاصة في جزئه الأول، حيث صار التفسير هو الشكل الأساسي للمعرفة البشرية، المعرفة تفسير، والذات تتدخل على الدوام في الموضوع أثناء معرفته، ومن هنا أصلاً يحدث اتصالها به، والدور المنطقي ليس مغالطة منطقية تعبر عن (خطأ) في المعرفة، بل هو شكل المعرفة البشرية في الأساس. إن الإنسان حين يعرف فإنه يفسر بالضرورة، ودون تفسير لا توجد معرفة بالمعنى الإنساني. بالإضافة إلى ذلك فإن التفسير أسلوب من أساليب الوجود الإنساني Seinsart des Daseins. فالإنسان يوجد كما يعرف، ويعرف كما يفسر، أو هكذا يمكن تقريب هذه الفكرة المعقدة. وليست الأهمية المنهجية للوجودية منحصرةًفي محاولة تطبيق هذا المنهج على ظواهر الوعي في الحضارة الإسلامية من أجل إعادة فهمها ونقدها على أسس بديلة، أي: إعادة تفسير ظواهر الوعي باعتبار أن معرفتها تفسير في حد ذاتها، أو إنتاج تفاسير جديدة، منها ما يمكن أن يكون تفسيرًا للقرآن أو غيره، بل كذلك يمكن إعادة فهم تفاسير القرآن ذاتها باعتبارها أساليبَ من الوجود الإنساني في الحضارة الإسلامية، أساليب متجادلة، ومتصارعة، تعبر عن صراع وجودي أكثر مما تعبر عن مجرد اختلاف نظري. لقد درج على بحث تفاسير القرآن باعتبارها ناتج التفاعل بين العقل النظري البحت وبين النص، أو-مع تطبيق المادية التاريخية خاصةً-بين المذهب السياسي أو الأيديولوجيا وبين النص، ولم يحاول المفكرون العرب المعاصرون إعادة قراءة هذه التفاسير، ولو جزئيًا، باعتبارها مؤسسة لشكل من أشكال الوجود الإنساني في العالم. وأكثر التفاسير قابلية لتطبيق هذا المنهج في القراءة هي التفاسير الصوفية والاعتزالية، وأهم هذه التفاسير الاعتزالية تفسير الكشاف للزمخشري، حيث يمكن على سبيل المثال قراءة مفاهيم الإنسان والعقل والحق باعتبارها مؤسِّسَة لأسلوب وجود الإنسان من وجهة نظر الاعتزال أو التصوف. ولهذه التفاسير قابلية لهذا النوع من القراءة نظرًا لاستعمال التفسير المجازي على نطاق واسع في هاتين المدرستين من التفاسير. ولا ريب أنه لا بد من الاستعانة بدراسة فلسفة التفسير العربية والألمانية والفرنسية وغيرها من أجل تطبيق هذا المنهج، ومن هنا أهمية اكتشاف فلسفة التفسير العربية أولاً، من أجل إكمال الدائرة: الوجود الإنساني تفسير، والتفسير محدِّد للوجود الإنساني في العالم.