استمرت عملية "البنيان المرصوص" نحو 29 يومًا بين الفصائل الفلسطينية وقوات العدو الصهيوني بقطاع غزة، تكبد خلالها الاحتلال خسائر عدة اقتصادية واجتماعية، بجانب الآثار السياسية والعسكرية لفشل القيادة الصهيونية في عملية العدوان على غزة. زعمت الحكومة الصهيونية برئاسة "بنيامين نتنياهو" خلال شهر يونيو الماضي اختطاف ثلاثة مستوطنين إسرائيليين، وراحت تحمّل الفصائل الفلسطينية خاصة حركة حماس مسئولية الاختطاف. المقاومة الفلسطينية نفت خطف أي إسرائيليين، لكن حكومة "نتنياهو" أعلنت عن البدء في عملية أسمتها ب"عودة الأخوة" وبدأت في استهداف المدنيين وقيادات الفصائل الفلسطينية، ومع تزايد الاعتداءات الصهيونية وتوسع عمليتها العسكرية تحت اسم "الجرف الصامد"، أجمعت الفصائل الفلسطينية أمرها وتكاتفت لمواجهة العدوان الصهيوني. ومع مطلع شهر يوليو الماضي (تحديدًا في 8 يوليو)، أعلنت سرايا القدس،الجناح العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، عن البدء في عملية "البنيان المرصوص" لمواجهة العدو الصهيوني، حيث شاركت في العملية كتائب عز الدين القسام الجناح العسكرية لحركة حماس وسرايا القدس الجناح العسكرية للجهاد الإسلامي، بجانب ألوية الناصر صلاح الدين وشهداء الأقصى. لم تمض سوى أيام قلائل في المعركة بين القوات الإسرائيلية والفصائل الفلسطينية، حتى اعترفت وسائل الإعلام الصهيونية بصعوبة العملية؛ خاصة مع دخولها مرحلة الاجتياح البري، وبدأت المقاومة تكبد الاحتلال خسائر بشرية ومالية باهظة. وسائل الإعلام الصهيونية أكدت أن نحو 3700 إسرائيلي تلقوا العلاج داخل المستشفيات نتيجة إصابتهم في العملية العسكرية بغزة، مضيفة أن عشرات الجنود ما زالوا يتلقون العلاج حتى الآن، بجانب عمليات الأسر التي نفذتها الفصائل الفلسطينية خلال العملية العسكرية. الخسائر البشرية التي ألحقتها المقاومة الفلسطينية بجيش العدو، أثارت حالة من الذعر والغضب داخل الكيان الصهيوني وأشعلت الغضب ضد القيادتين السياسية والعسكرية داخل تل أبيب، وخرجت عائلات القتلى والمصابين في تظاهرات واسعة تطالب بانتهاء العملية العسكرية ضد غزة. التخبط بين الأجهزة الإسرائيلية سواء الدوائر السياسية أو العسكرية كان جليًّا خلال العملية العسكرية، وراحت تتبادل الاتهامات فيما بينها، فالدوائر السياسية اتهمت القيادة العسكرية والجيش الإسرائيلي بالفشل في إدارة المعركة، فضلًا عن حالة الذعر التي سادت بين الجنود والضباط حتى أن عشرات الجنود والضباط رفضوا الامتثال لأوامر القيادة العسكرية ولم يشاركوا في المعركة. الدوائر العسكرية داخل تل أبيب اتهمت القيادة السياسية بالتهور في اتخاذ القرار وعدم دراسة الوضع جيدًا، وأكدت في تقارير مسربة أنها تدفع ثمن أخطاء القيادة السياسية غير الحكيمة، خاصة رئيس الحكومة "بنيامين نتنياهو". وأمام تزايد الإصابات داخل الجيش الإسرائيلي وحالة الذعر التي سادت الموقف على المستويين المدني والعسكري داخل إسرائيل، سارعت القيادة الصهيونية إلى الدوائر الدولية والإقليمية ترجوها التوسط لإنهاء العملية العسكرية ووقف سيل الصواريخ الذي يتساقط على المستوطنات الإسرائيلية. المقاومة الفلسطينية فاجأت العدو الصهيوني بعدة أسلحة تكتيكية خلال المعركة، بعضها كانت معدات عسكرية وأخرى كانت أساليب تكتيكية مثل الأنفاق التي أثارت الرعب داخل صفوف الجيش الإسرائيلي وتمكنت المقاومة من خلاله في أسر ضابط وجندي آخر. التقارير العسكرية التي صدرت عن الأجهزة الإسرائيلية، أكدت أن القدرات العسكرية التي كانت تستخدمها الفصائل الفلسطينية في المعركة دقيقة ومتطورة، حتى أنها تمتلك درجة عالية في إصابة الهدف، وأضافت التقارير الصهيونية أن هذه القدرات العسكرية والأسلحة التي استخدمتها الفصائل الفلسطينية لم يكن يعرفها الجيش الإسرائيلي أو يعلم أن المقاومة تمتلكها. الوقت الزمني الذي صمدت فيه المقاومة الفلسطينية أمام العدو الصهيوني وشدة المعركة على جيش الاحتلال بجانب الخسائر البشرية في صفوفه، دفعت عدد من أعضاء الكنيست إلى المطالبة بإدراج عملية "الجرف الصامد" ضمن الحروب التي خاضها الجيش الإسرائيلي وليست مجرد عملية عسكرية. بظهور الصواريخ المتقدمة بأيدي المقاومة الفلسطينية خلال المعركة مع العدو الصهيوني، راحت القيادة السياسية داخل تل أبيب تتهم الأجهزة الأمنية والاستخباراتية بالتقصير في أداء مهامها حتى تطورت قدرات الفصائل الفلسطينية لهذه الدرجة التي ظهرت خلال المعركة. بجانب التلاحم والوحدة بين الفصائل الفلسطينية خلال المعركة مع العدو الصهيوني، بدا محور المقاومة (إيران حزب الله سوريا) أكثر قربًا من المقاومة الفلسطينية، واعترف موقع "ديبكا" الاستخباراتي الصهيوني بأن الصواريخ المتقدمة التي استخدمتها حركة حماس في قصف المستوطنات الشمالية كانت سورية الصنع ومداها تخطى ال110 كيلو مترات. ومن لبنان خرج الأمين العام لحزب الله "حسن نصر الله" يعلن عن دعمه للمقاومة الفلسطينية والوقوف بجانبها ضد العدو الصهيوني، وأجرى خلال العملية عدة اتصالات هاتفية مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس "خالد مشعل" والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي "رمضان شلح". إيران بجانب دعم الفصائل الفلسطينية ومساندتها في معركتها ضد العدو الصهيوني، وظفت دوائرها الخارجية والسياسية للتنديد بالمجازر الصهيونية في الساحتين الإقليمية والدولية، ودانت الصمت المخزي لتلك الانتهاكات الإسرائيلية. أصداء عملية "البنيان المرصوص" لم تتوقف عند الدوائر العسكرية، بل امتدت لتشمل نظيرتها السياسية والمدنية، حيث توقع العديد من المحللين الإسرائيليين أن هذه المعركة وبخلاف العمليات العسكرية السابقة ستكون شديدة الأثر وستعيد رسم الخريطة السياسية داخل تل أبيب. وأوضح المحللون الإسرائيليون أن تأثير الفشل في المعركة سيكون كما حدث عقب حرب لبنان الثانية 2006، حيث أطاحت برئيس الحكومة حينها "أيهود أولمرت" من الحلبة السياسية، السيناريو المتوقع حدوثه مع "نتنياهو"، لا سيما بعد فشله في إيجاد كبش فداء يتحمل خسارة المعركة ضد الفصائل الفلسطينية بقطاع غزة. وبعيدًا عن الآثار السياسية والعسكرية لعملية "البنيان المرصوص"، فإن هناك خسائر اقتصادية تكبدها العدو الصهيوني في المعركة ضد الفصائل الفلسطينية، حيث أعلن مدير سلطة الضرائب داخل الكيان الصهيوني أن الفحص الأوّلي لتكاليف العملية العسكرية بغزة يشير إلى أنها تكلفت نحو 8 بلايين شيكل. وتعكس هذه الخسائر الاقتصادية مدى الفجوة العميقة والهوة الشاسعة التي ستخلفها عملية "البنيان المرصوص" في الموازنة العامة بالكيان الصهيوني، لا سيما وأنها تعاني من عجز نحو 49 مليار شيكل، فضلًا عن أثر هذه الخسائر على ميزانية الجيش الإسرائيلي التي يوجد خلاف بين أعضاء الائتلاف الحكومي حولها ويرفضون زيادتها. وفي ضوء الأرقام سالفة الذكر، فإن عملية البنيان المرصوص التي خاضتها المقاومة الفلسطينية ضد العدو الصهيوني ستعمق الخلاف بين القيادتين السياسية والعسكرية داخل تل أبيب، بجانب المأزق الاقتصادي الذي ستواجه حكومة "بنيامين نتنياهو" لدى إقرار موازنة 2015، خاصة فيما يتعلق بميزانية الجيش الإسرائيلي. اعتبرت الكثير من الدوائر الصهيونية أن معركة البنيان المرصوص التي خاضتها الفصائل الفلسطينية مع القوات الإسرائيلية تشبه إلى حد كبير حرب لبنان الثانية عام 2006، وربما كانت الخسائر البشرية ووصول صواريخ المقاومة إلى تل أبيب وحيفا أبرز الأسباب التي دفعت هذه الدوائر للتشبيه بين المعركتين. لقد تعلم العدو الصهيوني درسًا قاسيًا خلال معركة البنيان المرصوص، وهو عدم جر المقاومة الفلسطينية إلى ساحة المعركة وأن الفصائل الفلسطينية وإن توهم العدو أن الانقسام نقطة ضعفها، فإنه لا انقسام أمام مواجهة المحتل، فضلًا عن التكاتف والترابط الذي بدا بين محور المقاومة والفصائل الفلسطينية خلال المعركة والتي توهم العدو في أن الخلافات السياسية ستجعل محور الممانعة يتخلى عن الفصائل الفلسطينية. الفصائل الفلسطينية بدون شكل تيقنت أنه لا سبيل لتحرير الأرض سوى بالضرب بيد من حديد وحمل السلاح للدفاع عن الأرض والوطن، وأن التفاوض لا يأتي سوى بعد الانتصار والقوة وليس الضعف.