منذ عقود وهناك خطاب ديني على مرأى ومسمع من الجميع -كان في بعض الأوقات يحظى بدعم الدولة لأهداف سياسية أو اقتصادية- يسيطر على المنابر المسموعة والمرئية والمقروءة .. وتحول هذا الخطاب الديني لواقع ملموس يعيش بين الناس حتى اصبح هو وأصل الدين متجسدين فاصبح من ينتقده ينتقد الدين نفسه ويعتبر خارجا عن "الدين الصحيح".. ورغم قدم نوعية هذا الخطاب وهذا الطرح في تفسير النصوص الدينية "ربما قدم النص نفسه " إلا أنه اتخذ شكلا قويا ومتجسدا بعد إعلان دولة تمثله في هذا العالم وازداد وجودا وتأثيرا بعد تحول هذه الدولة لواحدة من اغنى دول العالم المؤثرة في اقتصاد الدول الكبرى والمؤسسات العملاقة .. تهاونت الدولة المصرية والعديد من الأنظمة العربية والإسلامية مع هذا الطرح وتعاملت معه تارة كنوع من لعبة موازين القوى الداخلية وتفتيت مراكز القوى وتارة كأداة للسيطرة على الجماهير وتارة بنية صافية كنوع من الحريات الدينية وحرية الإعتقاد "فيما ندر" .. وكان هذا التهاون في مقابل الدعم المالي الرهيب والمغذي وأمام فقر وضعف كل من يحملون أطروحات أخرى من اشاعرة وماتريدية ومتصوفة بل وحتى الخط الأزهري الذي يجمع بين الكثير من المدارس والذي عانى من الفقر والسيطرة وأيضا كلاسيكية الخطاب التقليدي الذي لم يعد يلائم الزمان والمكان بمثابة فتح الباب على مصراعيه امام تجسيد هذا الفكر.. بالطبع كل هذه الظروف أدت إلى ما نعيشه اليوم من وجود كيان يجسد هذه الأفكار ويؤسس لها على أرض الواقع بصورة لا تقبل التجميل ويسمي نفسه "الدولة الإسلامية" ويريد تطهير هذا العالم من كل ما سواه فليس عداؤه مع الشيعة الذين يعتبرهم "كفارا" من الاصل وخارجين عن الملة وينعتهم بالمجوس ولكنه يتحدث حتى عن تطهير الأمة من الأطروحات الضالة التي تخالف رؤيته "لصحيح الدين" .. ولكن هناك وجه أخر "سافر" للحقيقة نتهرب منه ونخاف جميعا ان نخوض غماره وهو أن هذا الفكر ليس زرعا شيطانيا بلا جذور ، وانه قد حان الوقت لنقف وقفة صريحة أمام أنفسنا لنتحدث عن تلك الجذور ، والسفور هنا يتضح حين نتحدث عن تلك الجذور فنفاجئ أنه لا يوجد خلاف جوهري بين هذا الفكر والعديد من اصحاب النظريات الوسطية والمعتدلة سواءا في التعامل مع النصوص الدينية أو مع أحداث التاريخ ، ولن أنسى ذلك الحوار الشهير في أحد البرامج التليفيزيونية الشهيرة بين أزهري شهير وسلفي متوسط العلم حين قال الأزهري للسلفي بلهجة "عتاب" (ماتقوله صحيح ولكننا لا نطرح هذه الأمور على العامة !!!) بالطبع لم يجرؤ أحد حتى يومنا الإقتراب من "المقدس" واكتفى باخفائه عن "العامة"وللأسف من من تقدم للمبادرة وطرحوه على "العامة" لم يكونوا سوى كارهين لأصل أي تدين ورافضين لاصل وجود الله واتخذوا من الوسيلة غاية لتحقيق هدف غير معلن هو هدم الدين بالكلية ونقابلهم يوميا في حياتنا الإفتراضية فنجد الشخص منهم يبدأ كلامه في نقد الخطاب الديني ، ويتحدث بعقلانية عن رفضه بشكل أو بآخر لنصوص دينية تخالف العقل ولكنه وبسفور أيضا يريد ان ينقلك بعدها وبطريقة بعيدة كليا عن العقل إلى رفض الدين بالكلية وأحيانا رفض الإلوهية جملة بطريقة جدلية لا تخلوا من التلاعب بالأفكار والألفاظ ودون أي قواعد منطقية أو عقلية .. ويظل الوضع عالقا بين تراث مملوء بأحكام فقهية وقصص تاريخية يعتبرها الناس "مقدس" وبين أحكام منسوبة لأئمة وعلماء توجب بشكل قاطع عدم الخروج على الظالم والطاعة وان جلد ظهرك وسرق مالك وبين أحكام منسوبة لغيرهم وأحيانا لنفس العلماء عن تكفير المخالف وقتل المفسدين والسعي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكل اصحاب هذا الفكر يرددون للناس هذه الأحكام وهذه النصوص بشكل يعجز اي شخص عن ردها .. نعم هذه النصوص التي تعلن أن "داعش" دولة إسلامية وأن أميرها "خليفة" واجب الطاعة ، نعم فالوجه السافر للحقيقة يقول أن تراثنا يؤكد أن المتغلب بالسيف والقوة تكون له الشرعية والطاعة ؟؟ وتراثنا هو الذي اعتبر خلافة عبد الملك بن مروان صحيحة بعد فتكه بابن الزبير في مكة وقتله وصلبه .. وتراثنا الذي انقاد للحاكم واعتبر ان مروان بن الحكم خليفة ولم يتعبر ابن الزبير خليفة؟ وتراثنا اعتبر امامة العباسي السفاح صحيحة بعد قتله لمروان بن محمد واعلان نفسه خليفة وذريته من بعده.. وتراثنا ايضا اعتبر خلافة الأمويين في الأندلس صحيحة في نفس عهد الخلافة العباسية .. وتراثنا اعلن البيعة والطاعة للسلطان سليم العثماني بعد شنقه لطومان باي واعدامه لآخر خليفة عباسي .. فلماذا لا يعتبر تراثنا ابو بكر البغدادي خليفة واجب الطاعة ؟ نعم الوجه السافر للحقيقة ان تراثنا يتحدث انه قد يختار بعض من "اهل الحل والعقد" خليفة المسلمين وبيعتهم له توجب طاعة كل الأمة له.. وتراثنا ايضا اعتبر ان توريث العرش يوجب الطاعة وتصح منه الإمامة فاعتبرنا كل الخلفاء الأمويين والعباسيين أئمة وخلفاء .. فلماذا سيقف تراثنا امام بيعة "أهل حل وعقد" للبغدادي ولماذا سيعترض لو ورث الحكم لإبنه؟ نعم هذا الوجه السافر للحقيقة يدعونا أن نتعامل مع تراثنا كتراث لا كمقدس .. وان نروي قصص التاريخ وسير الحكام والخلفاء كقصص بشرية كقصص كل الإمبراطوريات والدول نرويها لنفهم منها التاريخ وسننه فقط .. وأن النصوص الدينية ليست سابقة على العقل بل لاحقة له فالعقل هو الحاكم في منطقته .. وان الإسلام ذاته امرنا بعرضه نفسه على العقل .. فحين يخاطب القرآن قارئه فيقول "قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون" فهو امر بعرض هذه الآيات نفسها على العقل ! إن كنتم تعقلون .. فلنكشف الحجاب عن هذا الوجه المخيف للحقيقة ولنعلم ابناءنا وأحفادنا كيف يستخدمون عقولهم وكيف يتعاملون مع تراثهم بدلا من حقنهم باعلام قاتل وطائفيات بغيضة ومقدسات ليست مقدسة ..