عبد الوهاب حسن حاز الإمام البخاري صاحب الصحيح شهرة واسعة في زمانه، وكانت له مكانته العلمية، ولكن لم يمنع ذلك عنه محنته مع المتشددين، والتي بدأت في عام 250ه حين دخل مدينة نيسابور، وكان أهلها قد أعدوا له استقبال عظيم، ما دعى البخاري للبقاء في المدينة، فاجتمع عليه الناس ألوفا؛ لينهلوا من معينه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما أثار الغيرة في نفوس شيوخ نيسابور بعدما فرغت مجالسهم العلمية، فاتفقوا على أن يمتحنوه، يروي الذهبي في سير أعلام النبلاء: "حسده بعض من كان في ذلك الوقت من مشايخ نيسابور، فقال أصحاب الحديث: إن البخاري يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق، فامتحنوه في المجلس. فلما حضر الناس مجلس البخاري، قام إليه رجل فقال: ما تقول في اللفظ بالقرآن، مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه. فقال الرجل: يا أبا عبد الله، وأعاد عليه القول، فأعرض عنه. ثم قال في الثالثة فالتفت إليه البخاري، وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة . فشغب الرجل، وشغب الناس، وتفرقوا عنه . وقعد البخاري في منزله "لقد أرادوا الإيقاع بالرجل، وأعدوا عدتهم لذلك، وحاولوا إيقاعه في الخطأ بجره لجدل عقيم، ولما فشلوا جعلوا من ترفعه عن مجاراتهم في المراء والجدل خطأ، فأطلقوا ضده حرب شائعات، وكذا دأب الأفاقين عبر الزمان، لقد ألبوا عليه العامة بقيادة بعض المزايدين فشغب عليه السوقة والدهماء. حاول البخاري جاهدا أن يدافع عن نفسه، لكن أحدا لم يسمع بعد أن تلقف الدعوى للشغب ضد البخاري إمام نيسابور المحدث الحنبلي محمد بن يحيى الذهلي، الذي كان في هذا الوقت أقوى من الأمير والخليفة، في إقليم خرسان كله، وكان قد تضرر مجلسه بوجود البخاري بنيسابور أيما ضرر، وتكلم الذهلي في البخاري، وشنع عليه، وكان مما قال: "القرآن كلام الله غير مخلوق من جميع جهاته، ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر، ومن زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق – يعني البخاري- فهذا مبتدع، لا يجالس ولا يكلم. ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه". لقد أصدر الذهلي المرجع الأعلى للحنابلة وأهل الحديث والعوام بنيسابور قرارا بمنع الناس من الذهاب إلى البخاري والجلوس اليه، وزاد الذهلي الأمر سوءا بأن استمر في التشنيع على البخاري فقال: أظهر البخاري قول اللفظية، واللفظية عندي شر من الجهمية (جماعة منبوذة )، ثم تمادى الذهلي في غيه، وتأليب الناس بعد أن استفزه أن اثنين فقط من كل المدينة لم يلتزما بأوامره منهم الإمام مسلم صاحب أشهر صحيح بعد البخاري، فقال: ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا، وكان في المجلس وقتها الإمام الكبير مسلم بن الحجاج – صاحب الصحيح- وأحمد بن سلمة، فقام الاثنان من مجلس الذهلي، اشتاط الذهلي غضبا وغيظا وزاد من هجومه على البخاري، ووصل به لأعلى درجات الغلو، إذ قال: لا يساكنني هذا الرجل [يعني البخاري] في البلد، وحينها أخذ الجهال والسفهاء يتعرضون للبخاري في الطريق يؤذونه بالقول والفعل، ما أجبر البخاري في النهاية لأن يخرج من البلد. لقد سيطر المتشددون على المجتمع في نيسابور وقادوه لمصالحهم الشخصية كما هو شأنهم في كل زمان الضيقة فحاربوا به واحد من أعظم رواة السنة على الإطلاق في تاريخ المسلمين، حقدا وحسدا عليه، فخرج الإمام البخاري بعد معاناة من أراجيف الحاقدين قاصدا بلدته، التي ولد ونشأ فيها قبل رحلته لطلب العلم "بخارى"، وقد تكرر مشهد الاستقبال الحافل فنثر فيه على البخاري الدنانير والدراهم، وبقي الإمام بها أياما في هناء، إلى أن كتب محمد بن يحيى الذهلي إلى أمير بخارى: "إن هذا الرجل قد أظهر خلاف السنة"، ولا أدري أي سنة يقصد الذهلي، هل سنة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والتي كان البخاري من أعظم حماتها في التاريخ، أم سنة الذهلي؟، إنه الخلط ولصق الآراء الشخصية بالله ورسوله لمجرد الحصول على المصالح الآنية، فقرأ الأمير كتابه على أهل بخارى، وأمر البخاري بالخروج من بلدته الأم، فخرج البخاري طريدا شريدا،هائما على وجهه. ولم يكتفي الذهلي زعيم السلفيين في حينه بذلك، بل لقد تحجر قلبه، وطعن البخاري طعنة مودية، فكتب إلى العلماء في الآفاق بألا يقبلوا حديثه، فحفظ لنا التاريخ فاجعة كبيرة حين رفض إمامين كبيرين من أهل الحديث في ذلك العصر بكل أسف قبول أحاديث البخاري؛ والسبب ما أشاعه عليه الذهلي، يروي ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل أثناء كلامه عن البخاري : سمع منه أبي وأبو زرعة ، ثم تركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى الذهلي". خرج البخاري من بلدته وحزن الدنيا وكربها قد اجتمعا عليه، واتجه إلى أقارباء له في قرية "خرتنك" على مقربة من سمرقند – يروي الذهبي عن أحد مرافقيه: "سمعته في ليلة يدعو، وقد فرغ من صلاة الليل: اللهم إنه قد ضاقت علي الارض بما رحبت، فاقبضني إليك، فما تم الشهر حتى مات".