كتب : عبد الوهاب حسن امتدت المعارك الفكرية بين النصوصيين من أهل الحديث والحنابلة من جانب، والعقلانيين المعتزلة من جانب آخر لقرون، كان لكل فريق فيها مدارسه ومساجده الخاصة الغير المسموح للآخر بالتواجد فيها، لكن قطبا من أقطاب النصوصيين أو الحنابلة يدعى أبو الوفاء بن عقيل رفض هذا التقوقع من المدرستين، فتجاسر كما كل عالم حقيقي لا يخشى العلم والمعرفة، وطلب علوم العقل في مدراس المعتزلة، وهو ما اغضب كبار المدرسة الحنبلية عليه حينها فكفروه ثم أهدروا دمه. يعرفه الإمام الذهبي في السير، و ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة قائلين" هو الامام العلامة البحر، شيخ الحنابلة، المقرىء الفقيه، الأصولي، الواعظ المتكلم ، أحد الأئمة الأعلام، وشيحْ الإسلام، سمع علوم الحنابلة، وتعلم علم العقليات، وكان يتوقد ذكاء، وكان بحر معارف، وكنز فضائل، لم يكن له في زمانه نظير"، ويروي ابن عقيل في فنونه عن نفسه : أنا أقصرُ بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفّ الكعك، وتحسيه بالماء على الخبزة لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرًا على مطالعة، أو تسطير فائدة، لم أدركها فيه. لقد خاض ابن عقيل رحلة علمية كبيرة، وألف كتبا كثيرة، وكان أكبر تصانيفه كما يقول ابن رجب: كتاب " الفنون " بلغت مجلداته 200 مجلد جمع ابن الجوزي 150 منها. وكان ابن عقيل حنبليا كبيرا أعلن استقلاله داخل المذهب فقال: "الواجب اتباع الدليل، لا اتباع أحمد"، وقد انفرد في مسائل كثيرة ، وخالف المذهب، هذه الثقة الكبيرة والجرأة من الإمام ابن عقيل أهلته ليخطو خطوة أخرى، بعيدا عن دائرة المذهب الضيقة فأراد أن يتعرف على الآخر المخالف، وهم المعتزلة فطلب علومهم العقلية، وظل يطلبها حتى برز فيها، وأصبح مناظرا ومنظرا كبيرا للعقيدة السلفية، وهذا ما حمله على نقد مذهبه الحنبلي، يقول الحافظ ضياء الدين المقدسي، قال: كتب بعضُهم إلى أبي الوفاء بن عقيل يقول له: صِف لي أصحابَ الإمام أحمد على ما عرفتهم، فقال: هُم قوْم خُشُنٌ ، تقَلّصتْ أخلاقهم عن المخالطة، وغلظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجدّ، وقلَّ عندهم الهزل، فزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرّجًا عن التأويل، وغلبت عليهم الأعمال الصالحة، فلم يدققوا في العلوم الغامضة، لم أحفظ على أحد منهم تشبيهًا، إنما غلبت عليهم الشناعة لإيمانهم بظواهر الآيات والأخبار، من غير تأويل ولا إنكار. والله يعلم أنني لا أعتقد في الإسلام طائفة محقة، خالية من البدع، سوى من سلك هذا الطريق. والسلام". وعلم كبارالحنابلة حينها رأيه هذا، فاتهموه بالكفر والزندقة، وطالبوه بترك الجلوس مع أصحاب العلوم العقلية، وهو ما رفضه الإمام ابن عقيل قائلا:" يريد أصحابنا الحنابلة مني هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علما نافعا"، فما لبث أن تطور التكفير إلى إهدار للدم، حين وجدوه يترحم على الحلاج في كتاب له، يقول ابن قدامة المقدسي الحنبلي في كتابه تحريم النظر في كتب الكلام "وكان أصحابنا يعيرون ابن عقيل بالزندقة، وقد أهدر الشريف أبو جعفر – كبير الحنابلة في عصره – دمه وأفتى هو وأصحابه بإباحة قتله"، اختفى ابن عقيل عنهم، وظل طريدا لأربع سنين، والحنابلة يطلبونه لقتله، إلى أن حدثت حادثة مفزعة يرويها المقدسي إذ يقول "وكان ابن عقيل يخفى مخافة القتل فبينما هو يوما راكب في سفينة فإذا في السفينة شاب يقول تمنيت لو لقيت هذا الزنديق ابن عقيل حتى أتقرب إلى الله تعالى بقتله، وإراقة دمه ففزع وخرج من السفينة وجاء إلى الشريف أبي جعفر فتاب واستغفر" لقد خرجت الأمور عن كل حدود العقل والمنط،ق وجيش الحنابلة شبابهم ضد ابن عقيل، وباتوا في سباق للعثور عليه والتقرب إلى الله بدمه، فأدرك الحنبلي العقلاني ابن عقيل خطورة الموقف، وأراد انهائه فجاءهم مظهرا توبت،ه لتهدأ نفوسهم، وكتب لهم توبة واعتذار ليوقفوا هذا الجنون، بينما ظل على معتقده في السلفية العقلانية البعيدة عن التحجر والجمود، ولم يكتشف هؤلاء الغلاظ القساة السذج ذلك إلا بعد موته، حين وجدوا عنده كتبا بها مدح للعقلانيين، يروي ابن العماد "ولما مات رحمه الله في سنة إحدى وستين اطلعوا له على كتب فيها شيء من تعظيم المعتزلة والترحم على الحلاج وغير ذلك".