الخلاف اليوم بيننا وبين من يقولون بعودة "فلول مبارك" للسلطة بعد ۳۰ يونيو، خلاف قديم أكثر مما تتصورون، وتعود جذوره لثورة ۲۳ يوليو ۱۹5۲م! وقتئذ، كان الخلاف بين الزعيم "جمال عبدالناصر" وبين بعض القوى الأكثر راديكالية، حول كيفية تعامل الثورة مع الرجعية الرأسمالية الموالية للنظام الملكي، ومع علاقات الإنتاج في المجتمع المصري بصورة عامة. وشهد النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي كثيراً من الأقلام والأصوات تصف الثورة بأنها متصالحة مع فلول الرجعية الملكية! لأن تلك الأصوات كانت تتعجل التحول الاشتراكي بصورة كان "ناصر" يراها خطيرة على سلامة المجتمع ومقومات الإنتاج. وقد يفيدنا اليوم أن نستعيد كيف تعامل الزعيم مع "فلول الملكية"، فقد تعامل معها عبرموجات تبادلية؛ من الاحتواء، ثم المواجهة.وهو ما أدى لارتفاع كثير من الأصوات تتهم الثورة بالتخبط، وبعدم الثوريةأحيانا!!! رغم أن كل موجة من موجات المواجهة كانت تنتهي بتصفية تصاعدية للرجعية، وبالحصول على تأييد بعض معارضي الأمس من قوى اليسار وغيرها. مرحلة الاحتواء الأولى: من ۲4يوليو إلى 7 سبتمبر ۱۹5۲: بتولي"علي ماهر باشا" رئاسة الوزراء وهو رئيس الديوان الملكي السابق ورئيس وزراء لثلاث مرات قبل يوليو! وكذلك بفتح قنوات التفاوض مع حزب الوفد وغيره ومع جمعية الإخوان المسلمين. وقد شهدت تلك المرحلة تعاملا مع أحداث كفر الدوار في أغسطس رأت فيه قوى اليسار المصري انتكاسا للثورة وانتصارا للرجعية، خاصة مع حكم الإعدام الجدلي على العاملين "خميس" و"البقري" في سبتمبر وتحولهما لأيقونتين لليسار المصري مرحلة المواجهة الأولى: من ۹سبتمبر ۱۹5۲ إلى إبريل ۱۹54م: بصدور قانون الإصلاح الزراعي الأول في سبتمبر ۱۹5۲، وهو ما سبقه استقالة وزارة"ماهر" بيومين، بعد أن فشل الباشوات في فرض سياسة بديلة للإصلاح الزراعي، ثم صدور قرار حل الأحزاب التي كانت الذراع السياسية للرأسمالية الرجعية في ۱6 يناير ۱۹5۳م، ومحاولة قوى الرجعية التحالف مع اللواء "محمد نجيب"رئيس الجمهورية وقتها بدعوى "استعادة الديمقراطية" وهو ما أدى لأزمة مارس ثم تحديد إقامة "نجيب" وتشكيل "عبد الناصر" للوزارة في إبريل ۱۹54م، ثم حادث المنشية وحل جمعية الإخوان المسلمين مرحلة الاحتواء الثانية: من إبريل ۱۹54م وحتى تأميم قناة السويس في ۲6 يوليو ۱۹56م:بعد توليه رئاسة الوزراء وكشف مؤامرة الرجعية مع "نجيب" للجماهير، تمت تهدئة مؤقتة وتطمينات لقوى الرجعية، حتى مع توقيع صفقة الأسلحة الشرقية في ۱۹55م، حيث حرص "ناصر" على نفي انحياز مصر للاتحاد السوفيتي قبل وبعد توقيع الصفقة، وأكد أن يد مصر ممدودة للجميع شرقا وغربا في عدة خطابات، وساعد على هذا عقد مؤتمر باندونج، ومرت انتخابات الرئاسة بسلام وأصبح ناصر رئيسا اعتبارا من ۲۳ يونيو ۱۹56م، حتى جاءتأميم قناة السويس لتبدأ موجة جديدة من المواجهات. مرحلة المواجهة الثانية: من ۲6يوليو ۱۹56م حتى فبراير ۱۹58م: وبدأت بتأميم القناة والذي أظهر التوجه الاشتراكي للدولة بدون مواربة (وأعلنت بعده العديد من قوى اليسار انحيازها الواضح للثورة) ومن ثم العدوان الثلاثي، والذي حاولت خلاله قوى الرجعية تقديم نفسها للغرب كبديل لنظام يوليو، وخرج "ناصر" ليكشف تآمر تلك القوى مع السفارة البريطانية، ويضع العديد من أطرافها قيد الإقامة الجبرية، ثم تأتي تجربة الوحدة مع سوريا لتفرض موجة جديدة من احتواء القوى الرأسمالية المصرية والسورية على السواء. مرحلة الاحتواء الثالثة: من ۲۲فبراير ۱۹58 وحتى يوليو ۱۹6۱م: وفيها يعلن "ناصر" في خطاب كيف استوعبت الدولة عناصر الرجعية التي أرادت الاندماج داخل هيئة التحرير ثم الاتحاد القومي، ويستمر هدوء نوعي فرضته ظروف الوحدة، وقوة رأسالمال في الإقليم الشمالي (سوريا) والتي كانت أحد أسباب الانفصال عندما بدأت المواجهة الثالثة. مرحلة المواجهة الثالثة: من قوانين يوليو الاشتراكية وقانون الإصلاح الزراعي الثاني في ۱۹6۱م، إلى أحداث كمشيش ولجنةتصفية الإقطاع في ۱۹66م: وفيها اكتمل الشكل الاشتراكي للدولة (وإن ساعد هذا المتآمرين على فصل الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة) واستمرت حتى أحداث كمشيش واستشهاد المناضل "صلاح حسين" وما أعقبه من أعمال لجنة تصفية الإقطاع.وفيها كشف"ناصر" في خطاب علني عام ۱۹64م كيف احتوت الدولة فلول الرجعية في الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي ولم تقصهم، وكيف أبوا هم الاندماج في المجتمع الجديد! هكذا واجهت يوليو بحذر لا ينفي القوة، وبحنكة لا تنفي العزيمة، قوى الرجعية وفلول النظام السابق عليها، واستغرق الأمر ۱4 عاما كاملة لتقضي عليها نهائيا، وتعيد هيكلة الدولة والمجتمع وصياغتها من جديد. ويبقى الضامن الأكبر لعدم عودة نظام ثار عليه الشعب .. هو الشعب ذاته.