بتأثير صدمة زيارة السادات للقدس المحتلة عانت مصر مما يمكن تسميته ‘الخروج الكبير' لكثير من علمائها وأكاديمييها ومفكريها ومثقفيها وصحافييها وكتابها؛ منهم من اتجه إلى العراق وليبيا وسوريا والجزائر، والبعض وجد لنفسه ملجأً في الإمارات وعُمان واليمن، وآخرون انتقلوا إلى أوروبا؛ خصوصا بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وكان ذلك أكبر خروج للعقول والكفاءات المصرية منذ الفتح العثماني، ونقل الكفاءات والعقول المصرية إلى الاستانة عاصمة الامبراطورية العثمانية، والاستحواذ على ‘العمال والصناع المهرة'، وأُفرِغت مصر من كفاءاتها لعدة قرون، إلى ما بعد ثورتي القاهرة الأولى والثانية ضد الحملة الفرنسية، وتنصيب محمد علي واليا على مصر، فأحدث نهضة كبرى معروفة؛ غذت روح الاستقلال ومنافسة الباب العالي!. واستمرت النهضة حتى معاهدة 1840 وحصْر محمد علي داخل حدود مصر، وتصفية إنجازاته، ثم إغراق ورثته بالديون ووضعهم تحت رحمة ‘صندوق الدين'، والرقابة المالية لبريطانيا وفرنسا على موارد مصر ومصروفاتها، ثم الاحتلال البريطاني، الذي استمر إثنين وسبعين عاما، وخروج آخر محتل في 18 حزيران/يونيو 1956، وكان المصريون قد تمرسوا على العمل المسلح والمقاومة، ووقع العدوان الثلاثي؛ في وقت لم تكن القوات المسلحة قد تأهلت بما فيه الكفاية بعد، لكنها فتحت معسكراتها لتدريب المواطنين وإعدادهم لمقاومة طويلة، ووزعت عليهم الأسلحة، وخرجت قوات الأحتلال للمرة الثانية من بورسعيد في 23 كانون الأول/ديسمبر من نفس عام 1956. وعقب هزيمة 1967 واندلاع حرب الاستنزاف، وفور رحيل عبد الناصر أطلت الثورة المضادة برأسها، وتغيرت سياسة مصر من النقيض إلى النقيض، وخلالها جس السادات نبض المرشد العام الثالث لجماعة الإخوان المسلمين عمر التلمساني، للتعاون معه في التصدي للحراك الطلابي المتصاعد في ذلك الوقت، وتحفظ الرجل؛ المعروف بدهائه ورصانته، ويبدو أنه وجدها مغامرة غير مأمونة العواقب، فطلاب الجامعات يضغطون بقوة طوال عامي 1972 و1973 حتى حرب تشرين الأول/أكتوبر لدخول الحرب والثأر للهزيمة، والوقوف ضد ذلك الحراك قد يفقده مكانته. بادر محمد عثمان إسماعيل؛ الأمين المساعد للاتحاد الاشتراكي العربي بمحافظة أسيوط، والمعين أمينا للتنظيم باللجنة المركزية ثم وزيرا للدولة بعد إنقلاب ايار/مايو 1971؛ تلخصت مبادرته في تجاهل التلمساني وتكوين جماعات دينية بديلة للإخوان بين طلاب الجامعات، وتوفرت له الإمكانيات، ودعمته شركة ‘المقاولين العرب'، وكانت حاضنة ل'الإخوان المسلمين' وعائلاتهم، ومن المفارقات أن صاحبها عثمان أحمد عثمان هو من دعا الدولة لشراكته بنسبة 50′، ونال حصة في أعمال السد العالي. واستمرت ‘المقاولين العرب' كامنة ك'خلية نائمة'، استيقظت فجأة لتمويل مطبوعات ومنشورات وأنشطة طلابية وعامة للتجريح في عبد الناصر، وأصدر عثمان كتابا بعنوان ‘تجربتي' لتكريس إدارته لحملة التجريح الضارية، والكتاب منشور على الشبكة الألكترونية (الإنترنت). وفي وقت التفت فيه القوى الوطنية حول هدف ‘إزالة آثار العدوان' والضغط لتحرير الأراضي العربية المحتلة، وانتشار جماعات ‘أنصار الثورة الفلسطينية' بين طلاب الجامعات؛ تغيرت العقيدة السياسية من تحدي ‘الصهيونية والاستعمار والرجعية' إلى محاربة ‘اليهودية والصليبية والشيوعية'؛ حلت اليهودية محل الصهيونية، والصليبية محل الاستعمار، والشيوعية محل الرجعية، فخرجت العقيدة السياسية عن مفهومها التحرري الوطني الرحب إلى المفهوم المذهبي والانعزالي المنغلق!!. وتلك ردة أحدثت خللا ضخما في فهم الدور والثقافة والهوية، وتشوهت مفاهيم الأوطان من كونها بوتقات للانصهار والإندماج الوطني ل'دور للحرب' وساحات للاقتتال؛ تجلت في حادث المنصة واغتيال السادات. وكان يستحق الحساب والعقاب؛ لكن ليس بالاغتيال، فمواجهة جريمة موالاة عدو محتل وفي حالة حرب، وزيارته وتوقيع معاهدة ‘كامب ديفيد' معه بالاغتيال لا يغير من الوضع شيئا بل يكرسه، وهذا ما قام به وريثه؛ الأكثر مناصرة للمشروع الصهيوني. وأشرنا السبت الماضي إلى عملين مسلحين؛ الأول قام به ‘سعد إدريس حلاوة' في شباط/فبراير 1980 بعد أقل من ثلاثة أشهر من زيارة القدسالمحتلة، وانتهى العمل باستشهاده، والثاني قام به ‘سليمان خاطر' في تشرين الاول/اكتوبر 1985 بعد ظهور ‘ثورة مصر' وتَحوُّل المبادرات الفردية إلى عمل جماعي ومنظم. بدأ تكوين تنظيم ‘ثورة مصر' في 1983، وحصر هدفه في ملاحقة أفراد وضباط المخابرات الصهيونية (الموساد) والتصدي لعمليات اختراق الداخل!. وكان ذلك على يد محمود نور الدين (المعروف في الأوساط المصرية في لندن باسم نور السيد) وهو إسم مطبوع على غلاف ‘مجلة 23 يوليو' التي صدرت في لندن 1979؛ كرئيس لمجلس إدارتها، وكان رئيس تحريرها الكاتب الراحل محمود السعدني (الشهير بالولد الشقي)، وقبلها عمل نور السيد موظفا إداريا بسفارة مصر بلندن، وكان على علاقة بالراحل خالد عبد الناصر، وهو يعد للدكتوراة في الهندسة بالإمبريال كوليدج. حملت ‘ثورة مصر' السلاح، دون مواربة، وأصدرت بيانات بذلك بعد كل عملية، وكما قال ‘نورالدين' فى تحقيقات النيابة: ‘اختمرت فى ذهني فكرة مقاومة الضغوط الصهيونية التى شعرت أنها واقعة على القيادة السياسية فى مصر وتمارسها أمريكا وإسرائيل خاصة في مجال التطبيع، فأسست منظمة ثورة مصر من بعض ضباط القوات المسلحة المصرية وبعض المدنيين'. ودشنت ‘ثورة مصر' عملها في حزيران/يونيو 1984 بالهجوم على ‘زيفي كيدار'؛ أحد عناصر ‘الموساد' بجوار مسكنه بالمعادي القريبة من القاهرة. وأصابته الطلقات في يده، ونُقل للمستشفى للعلاج. واستهدفت العملية الثانية مسؤول الأمن بالسفارة الصهيونية بالقاهرة، ونفذها أربعة هم: محمود نور الدين، ونظمي شاهين، وحمادة شرف، وسامي عبد الفتاح؛ أطلقوا نيران بنادقهم على ‘البرت أتراكشي' وزوجته وسكرتيرته الخاصة في 20 آب/أغسطس 1985، بالقرب من منزل السفير الصهيوني بالمعادي. وأصدرت المنظمة بيانا أعلنت فيه مسؤوليتها. وتمت العملية الثالثة فى آذار/مارس 1986 ردا على مشاركة الدولة الصهيونية في معرض القاهرة الدولي للكتاب؛ عقب خروج المظاهرات المنددة والرافضة للمشاركة الصهيونية، واغتيلت ‘إيلي تايلور' مديرة الجناح الصهيوني به. وفي أوراق التحقيقات يشرح ‘نور الدين' ملابسات العملية الرابعة ويرجعها إلى: ‘إلغاء ريغان زيارة مبارك للولايات المتحدةالأمريكية، ورفض الحكومة الأمريكية زيادة المساعدات أو جدولة الديون أو تخفيض الفوائد، علاوة على الضغوط الأمريكية المستمرة للخضوع للمطالب الإسرائيلية المجحفة. أما أقوى دافع لنا للقيام بهذه العملية ضد رجال ريغان في مصر وأعضاء المخابرات المركزية الأمريكية هو ما شعر به كل المصريين من ذل ومهانة وإذلال لكرامتنا وكرامة المصريين حين صعدت الطائرات الأمريكية الحربية واختطفت الطائرة المصرية المدنية وأجبرتها على الهبوط وقامت بتفتيش جميع ركابها ولم يحرك أحد ساكنا على المستوى الرسمي، ولذلك قررنا أن نقوم بعمل عسكري ضد الأمريكيين لمحو العار الذي لحق بنا. وأعقب ذلك ثلاثة عمليات حتى تاريخ القبض علي أعضاء المنظمة فى ايلول/سبتمبر 1987′. ما هو وضع الراحل خالد عبد الناصر كمتهم في قضية ‘ثورة مصر'؟