قراءة في رواية عمر حاذق "لا أحب هذه المدينة" " هل تنزل الأحلام من النجوم – المصابيح التي يحملها الموتى – ؟ هل هي محاولاتهم للتحدث إلينا ؟ حين تمطر السماء أحلم . فإذا اشتد المطر كثرت الأحلام.. غيرت حشوة وسادتي فلم تتغير الأحلام ولم تنقطع . ظننت الأحلام تتسلل من وسادتي, وضعت أدوات الرسم كلها في جرابي الجلدي وأحكمت إغلاقه كي لا يتسرب إليه المطر, وتركته على السطح, فإذا بأحلامي تأتي بلا ألوان , فلما أنزلته لغرفتي عادت الأحلام ملونة….. هذه الأيام أصبحت أمشي تحت المطر ولا أخاف, ربما لأنني الآن أشد توغلاً في عالم الأحلام العجيبة, وأكثر انشغالاً بالوجوه التي أرسمها لأنقذها من الفناء..فكيف بي وأنا أرسم وجوها تصنع الموت, وجوها لناس يقتلون الناس, يحملون سلاحهم متأهبين للقتل فور أن يأمرهم قادتهم! رسمت جنوداً عديدين وفكرت أن أسألهم , لماذا تريدون تخليد أدوات القتل مع أرواحكم وأجسادكم . كنت أرسم الأحزمة دون السيوف كي لا يقتلوا بها أحدا في العالم الآخر". في روايته الأولى " لا أحب هذه المدينة" والتي انتهى منها منذ شهور قليلة – تحديداً في أكتوبر 2013 – يسرد عمر حاذق ببساطة وشاعرية قصة رسام فقير يرحل من قريته إلى الأسكندرية, يحلم حينا بأن يصبح أشهر رسامي البورتريه في عصره ,وحينا آخر بأن يمتلك حقلاً للأعشاب الطبية والتي تمكنه من اختراع علاج لمختلف الأمراض ..تعلو به الأحلام وتهبط ..وتبتسم له وتراوغه حد الخديعة, ولا ييأس. ولكن أي مدينة تلك التي لا يحبها عمر؟ هكذا تساءلت وأنا أقرأ عنوان الرواية ..لمعرفتي أنه ابن الأسكندرية تلك المدينة المغوية التي يقع في غرامها كل من يمر بها ,والتي ينحاز لها أبناؤها – الأصليين والمنتسبين -حتى تكاد تشعر أنهم يريدون الهرب بها من أعين المتطفلين ..يحدثونك عن جمالها وخصوصيتها وبحرها الذي يحفظ الأسرار ..لكن عمر لا يراها هنا بصورتها البراقة , بل بعيون شاب قروي فقير اعتاد أن يصلي للرب رع وهو يلون الأفق كل صباح ,وأن يغتسل في ماء النيل العذب بمباركة من أبيه حابي..فيأتي للمدينة حيث لا يوجد إلا الملح والتعالي والظلم ..تتناول الرواية التقسيم الطبقي الظالم ما بين الرومان بعباءاتهم الحريرية وقصورهم وغطرستهم وبين القرويين المصريين الفقراء والذين يضطرون للقبول بأردأ الأعمال ليستطيعون الاستمرار في دفع الضرائب المفروضة عليهم. يتحدث عن أحيائهم السكنية الفقيرة وعن طردهم المستمر خارج حدود المدينة ليضطروا للعودة لقراهم والاستمرار في زراعة القمح ..خبز الأغنياء . توحي سطور الرواية بعشق للتاريخ المصري وأسرار الحضارة الفرعونية , كما أفادت من الاطلاع على الشعر الفرعوني وتضمينه داخل الأحداث :- هناك على الشاطئ الآخر حب حبيبتي وبيني وبينها الماء وتمساح على رمال الشاطئ يكمن ولكنني إلى الماء أنزل عليه أسير وقلبي فوق الماء يجري وإذا بالماء أرض لقدمي فحبها يقويني ………………. ولكن التميز الشديد للرواية يظهر من خلال نسج الحكايات حول البورتريهات التاريخية الحقيقية والتي تم العثور عليها في الفيوم .يخلق عمر من كل وجه حكاية لتشعر أنك تعرف صاحبه بل وأنك كنت معه وقت رسمه ووقت أن تم وضعه على تابوته لتتمكن روحه من التعرف عليه في العالم الآخر كما تقول الأسطورة. شغف عمر بالحضارة الفرعونية لم يمنع أن يمتد هذا الشغف ليتأثر بالحضارة القبطية ويحكي عن ظهور المسيحية في مصر من خلال معرفة بطلنا الرسام الصغير بدروس الأب كليمنت وحكاياته عن يسوع والذي يبشره بالملكوت المفتوح في السماوات والذي لا يفرق بين غني وفقير. " في الدروس الأولى شرح الأب كليمنت قصة الكلمة, وأنها أصل في خلق المخلوقات "في البدء كانت الكلمة إنها "اللوجوس" الكلمة الأولى . كما كان إلهنا المقدس بتاح يخلق, وأدركت سر الكلمة واطمأننت. المجد لله في الأعالي . ستخلد لوحاتي لأنني أرسمها وأنا أتلو كلمات الشعر على لوحتي . الشعر كلام القلب وسيبقى ما بقي قلب ينبض على هذه الأرض" لا ينسى عمر إذن أنه شاعر..وإن كانت الرواية جاءت ببنية محكمة خالية من الترهل ومكتوبة بوعي من يعرف ماذا يريد , ولا يسترسل أسيرا لشاعريته. في رحلة الرسام نتعرف على نشأة فن البورتريه وتطوره وكيف توصل المصريون القدماء لتطوير صناعة الألوان حتى احتفظت رسوماتهم بألوانها الزاهية لآلاف السنين , وكيف تطور الأمر لينشأ فن النحت وصناعة الأيقونات مع دخول المسيحية إلى مصر. ورغم انها ليست رواية تاريخية بالمعنى الحرفي – فقد استندت على أحداث متخيلة لشخوصها – إلا أنها نجحت في رسم صورة عامة للحياة في مصر في تلك الفترة بشكل متفرد على خلاف الشائع من الحديث عن حضارة الرومان وتقدمهم وانعكاس حضارتهم على طبيعة الحياة في مصر . هي رواية لا تخلو من الأسى والفقد..والبحث المستمر عن الشعور بالوطن\البيت\الأم . لكنها لا تخلو أيضا من مقاومة وإصرار ومحاولات لخلق أحلام مستمرة. "في طريق عودتي كانت أوراق الشجر الصفراء والبنية تتساقط وتتراكم على الأرصفة والهواء يلهو معها ويطير بها على الطرقات . ابتسمت راضيا . أوراق تسقط عن الشجر وأوراق تطلع في روحي وتكبر وتملؤني بالأخضر المريح مثل حقل هائل من الفول الأخضر " دمت محبا لوطنك وحضارتك يا عمر ..دمت مبدعاً حراً وجميلاً.