خلق في كتاباته علاقة جدلية وتكاملية، فلا الكاتب يرفع سيف الخصومة الدائمة في وجه حكامه، ولا الحكام يجرمون الكاتب إذا ما صور الواقع الذي يعيش فيه بأمانة ومسؤولية. توفى الأديب الروسي ميخائيل شولوخوف، الذي مرت أمس ذكرى وفاته ال30، والحاصل في العام 1965 على جائزة نوبل للآداب، إلى عالم أفضل يسوده الوئام والحياة الإنسانية الكريمة. شولوخوف رأى أن المصارحة هي أفضل ما يمكن للأديب أن يقدمه للسلطات والحكام، إذا أرادوا ألا يكونوا مرذولين ومعزولين عن الشعب، وأن يسيروا في طريق البناء والحكم الرشيد. أحب القاريء جرأته ووصفه الملحمي لظروف الناس في الحروب الأهلية، وطرحه لآرائه دون خوف، ورأى فيه مثالاً جديراً بالانتباه للكيفية التي يمكن للكتّاب أن يتعامل من خلالها مع أية سلطة مهيمنة تريد مصادرة الفكر والحرية والإبداع. على الرغم من غنى عائلته إلا أنه لم يكمل دراسته الابتدائية، شأنه في ذلك شأن كثير من مشاهير الكتاب في العالم، ممن تعلموا في مدرسة الحياة، لا على مقاعد الدراسة، فظلوا يحتفظون بدواخلهم بفطرة صافية قد تفسدها الدراسة المنظمة. ولعل أهم الدروس التي علمته الحياة إياها جاءت عندما شهد خلال سنوات ست من عمره (1918–1924) الفصول الدامية للحرب الأهلية التي وقعت في منطقته، ما جعله يكره الحرب، كما أنها أمدّته بموضوعه الأثير: مآسي الناس في الحروب. أشاع بعض الكتاب الروس، ومنهم ألكسندر سولجنستين وروي مدفيدف، أن معظم ما جاء في روايته "الدون الهادئ" التي نال عنها نوبل، مسروق من الكاتب القوزاقي فيودور كرويوكوف، الذي مات في العام 1920. ويعزز هؤلاء إشاعتهم بالقول: إن شولوخوف كان صغير السنّ، وغرّاً عديم الخبرة والتجربة الحياتية والكتابية، عندما كتب تلك الرواية. ويضيفون: إن الكاتب فشل في إضافة شيء ذي قيمة مقارنة بما قدمه في "الدون الهادئ". ولكن أصحاب هذه الإدعاءات لا يقدِّمون دلائل ملموسة على إدعاءاتهم، ما يدفعنا إلى القول إن حملتهم عليه، واتهامهم له بالسرقة، ما هي إلا انتقام منه لأنه وقف ضدهم، ورفض فرارهم إلى الغرب، وتشهيرهم بروسيا الشيوعية آنذاك. ومن المفارقات أن هذه الإشاعات زادت من حضور أدب شولوخوف بدلاً من أن تضرّ به، وصار يُنظَر إلى رواية "الدون الهادئ" على أنها كتاب فريد من نوعه مقارنة بالمؤلفات الأدبية الصادرة في زمانه.. ورأوا فيها استمراراً لتقاليد الأدب الكلاسيكي الروسي الذي نال شهرةً عالميةً. وعلى عكس بوشكين ودوستويفسكي اللذين قدَّما لنا أبطالاً مترددين ومتأملين، قدَّم لنا شولوخوف أبطالاً لرواياته لا يتأملون بل يعملون، وهم ليسوا نبلاء كما في روايات تولستوي، ولا مثقفين كما في روايات باسترناك، بل هم أبطال عاديون يعانون من مآسي الحرب. هجر الكتابة ولم يكتب أي شيء في سنوات حياته الأخيرة، كما أنه لم يترك مذكرات، وربما كان ذلك احتجاجاً منه على أن ما ناضل من أجله، وكتب عنه، ظل أحلاماً بعيدة المنال، إذ يبدو أن الكائن البشري خُلق ليفجِّر الحروب، لممارسة الظلم، والخضوع لحياة ليس فيها عدالة ولا مساواة بين البشر.