في قصر السينما بالقاهرة، أمضيت وقتا في رحاب الموسيقى المصرية الأصيلة مع نغمات قوس الكمان للفنان "عبده داغر"، وهو مؤلف موسيقي نادر اكتشفه الأجانب وعرفناه عن طريقهم، سمعت عنه للمرة الأولى في فيلم " القاهرة الأم والابن"للمخرج المغربي التونسي المقيم في باريس مصحفي الحسناوى ، الفيلم عرض منذ عدة سنوات في إطار مهرجان الإسماعيلية للسينما التسجيلية والقصيرة، القاهرة الأم والابن يتناول شخصية عمر الذي أممت ثورة عبد الناصر أملاك والده، وردها إليهم أنور السادات، الابن صوفي منحاز للفقراء يرفض الثراء المورث له، أما الأم فسعيدة باسترداد ما خسرته، في المنزل الذي كان يوما ما كقصر صغير جلب الحسناوى "عبده داغر" وجعله يعزف وسط أطلال البيت المتهاوي، إستخدم موسيقى داغر العميقة كموسيقى الغرب، الشجية كموسيقى الشرق ليعبر عن هذه العراقة التي كانت وليبكينا عليها. في الفيلم المعنون فقط باسمه " عبده داغر" يجمع المخرج "وحيد مخيمر"، موادا لحفلات شارك بها داغر، ويمزجها مع جلسات حرة في منزله مع تلاميذه ومريديه ومنهم الفنان محمود حميدة، يجرى مخيمر لقاءا معه ومع الموسيقار "أمير عبد المجيد" الذي يتحدث عن تلمذته على يد داغر، وكيف أنه ينقل ما تعلمه منه إلى تلاميذ آخرين. في فيلم قليل التكاليف من إنتاج المركز القومي للسينما، أثناء رئاسة المخرج "مجدي أحمد على" له، أدخلنا مخيمر في رحاب صوفية مع موسيقى داغر متنقلا بنا بين الأحاديث عن الفنان وبين أجزاء من حفلات عامة وخاصة، نستمتع فيها إلى عزفه الفريد وتناغم تلاميذه معه ومنهم ابنه خريج "الكونسيرفتوار"، لم يركز المخرج على ذكر مشوار حياة داغر ولم يقف طويلا عند شرح تميز موسيقاه إلا في مشهد وحيد مع "نصير شمة " يشرح بإيجاز خصوصية وتميز موسيقى عبده داغر،في نصف ساعة عشنا لحظات ننهل من بحر موسيقاه العظيمة وصفقنا نحنالحضور المتعطش لهذا النوع من الفن الذي يميز مصر ولا يتم التركيز عليه في وسائل إعلامنا ولا يعرف أكثرنا عنه الكثير. ترتفع آهات البعض وكأننا في حفل حي لأم كلثوم، وترتفع الآهات مع جزء من حفل على مسرح كبير وداغر يعزف مصاحبا إنشاد المنشد محمد عمران بزيه التقليدي بالجبة والقفطان ومايسترو أجنبي يقود الأوركسترا البديع، يا الله أليس هذا في جمال أوبرا عايدة إن لم يكن أفضل. هذا التوظيف الفني البديع والنادر لعزف على الكمان لنغمات شرقية في تناغم مع أسلوب التوزيع الموسيقى الغربي ، يحتفي به في الغرب في حفلات بألمانيا وإيطاليا، هل قدم على أوبرا القاهرة، هل تم الاحتفاء به هنا في مصر كما حدث بالخارج؟ للأسف لم يحدث فلا كرامة لنبي في وطنه. ترتفع أسئلتنا وتوجه إلى الفنان..ألم تتقدم لإنشاء مدرسة للموسيقى إلى وزارة الثقافة؟ لماذا لم يؤسس" بيت الكمان المصري" كما فعلوا مع تكوين " بيت العود العربي" وجعلوا الموسيقى العراقي نصير شمة يعلم الطلاب فيه، إنجاز هام ولكننا في حاجة إلى المزيد، يهمس أحد الحضور داغر لايكتب نوتة، ومن قال إن الأستذة شرطها تعلم النوتة؟ ألا يتعلم الدارسون والعارفون للنوتة في حضرة عبده داغر أفضل مما تعلموه على يد الأساتذة الدارسين؟ وهذا ما ذكره أحد الخريجين النابهين من الكونسيرفتوار في لقاء معه بالفيلم. هل كان عبد الوهاب يكتب النوتة؟ أم كان يلحن ويؤلف ليكتب النوتة خلفه شخص متخصص يمتلك العلم ولكنه لا يقاربه في الموهبة والإبداع. اتفق الحضور على أن نرفع مطالبنا إلى وزير الثقافة ولرئيس وزراء مصر، لزعيم البلاد وللرئيس نفسه طلبا بأن يفتح متاحف أغلقت لتكوين مدرسة بإحداها يتعلم فيها النابهون على يد فنان مصري اسمه عبده داغر ، لا أتصور أن الأوان قد فات لتأسيس " بيت الكمان المصري" ليعُلم فيه عبده داغر للراغبين فن الموسيقى بنكهة مصرية أصيلة، وفيها نعود إلى حلقة الدرس والمريدين التي تميز طريقة التعلم في حضارتنا الشرقية، وهى ما زالت موجودة في بلاد كثيرة منها الصين واليابان، وتشبه الأسلوب الذي لا يختلف كثيرا عن نيل الدكتوراه لدارس بإشراف أستاذ قدير في مادته. ترتقي الشعوب بالجمع بين تراثها الأصيل والتطورات العلمية في مجالات الحياة المختلفة، ولو نجحنا في هذا سيكون لدينا أوبرا محمدية تجمع بين أصالة العزف والتأليف لعبده داغر مع إبداع منشد متصوف موزعا بتوزيع هارمونى كما الموسيقى الكلاسيكية الغربية. عندما سئل داغر في الدوائر الغربية عن أستاذه الذي تعلم على يديه قال لهم إنه القرآن، وهو نفس الأستاذ الذي تعلمت منه أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب. ما أحوجنا إلى تطوير فنوننا بأسلوب يعتمد على الجمع بين تراثنا وبين العلوم الحديثة. ما أحوجنا إلى أن ننوع بين الغناء وبين الموسيقى المتفردة الخالصة. يتركنا الفيلم فى حالة من النشوة دون إشباع، أبحث في الشبكة العنكوبيته فأجد مقاطع منفردة لعزف داغر وأخرى مع محمد عمران، كما أجد معلومات وفيرة عنه وهو المولود في مدينة طنطا سنة 1936 عازف الكمان المصري العملاق في عزفه ، قل أن يجود الزمان بمثله إلا كل مئات من السنين ، فهو متمكن في عزفه للموسيقى العربيةهكذا بدأت صحيفة هولندية مقالها عن "عبده داغر" والتي تمت ترجمتها بالسفارة الهولندية . وتتابع الصحيفة الحديث عن" عبده داغر " فتكتب: ولقد صنع (عبده داغر) للموسيقى المصرية طابعاً فريداً لم يصنعه كل من سبقه ، فهو يعزف الموسيقى بفطرته ، دون دراسة أكاديمية كباقي العازفين ، ولكنه فاق الجميع في عزفه ، وأسلوبه في العزف أسلوب المتمكن العبقري للجمل الموسيقية الصعبة ، وتكرارها على كل السلالم الحديث منها والقديم ، كما في السيمفونيات ويمكنه التنقل من مقام إلى آخر فهو السهل الممتنع الذي جذب أنظار بل وقلوب كل المستمعين، فكان داغر الساحر الذي خلب العقول والقلوب بعزفه، فهو جامعة أو أكاديمية للموسيقى العربية التي لم نكن نعرفها من قبل أو نتذوق حلاوتها إلا بعد سماع العازف المصري عبده داغركان لوالده محل لبيع وتصنيع الآلات الموسيقية لهذه المدينة ، ولم يجذب انتباه الصبي الصغير من الآلات الموسيقية الموجودة بمحل والده سوى آلة الكمان ، فضمها إليه بكل حب وأعطاها كل اهتمامه ، فكانت تلازمه في كل أوقاته ولم تكن تفارقه إلا عند النوم ، لساعات قليلة ، وكان في بعض الأحيان يستيقظ في غسق الليل متلهفاً على الكمان ليعزف عليها نغمات سمعها في حلمه ، فهو إنسان عبقري علّم نفسه بنفسه ، فموسيقاه نابعة من القلب والوجدان. ولقد سألت كثيرا من المستمعين له والذين استمتعوا بعزفه والذين كلّت أيديهم من كثرة التصفيق له فترات زمنية طويلة وهم مبهورون بهذا الإعجاز الخارق في عطاء الكمان، لهذا العازف الفريد من نوعه فقالوا : إن أرواح العمالقة العظام أمثال باخ، هاندل، موتسارت، وفردي تجسدت في هذا العازف المصري، فإن أصابعه حساسة تعرف مكانها على الأوتار، وقوسه السحري حين يتحرك على أوتار الكمان يجذب القلوب نحوه جيئة ورواحاً ، ذلك أن موسيقاه تسري في القلوب كسريان الدم في العروق، وأجمع كل من سألتهم على ضرورة استدعائه مرّات ومرات للاستماع إلى موسيقى عبده داغر، فهو كباقي أجداده الفراعنة العظام الذين بنوا الأهرام والآثار العظيمة، فداغر قد تمكن من إثراء الحفل الموسيقي بأفكاره الجديدة ووضع للموسيقى المصرية قالباً فريداً، والجميع يقولون أن عبده داغر عند عزفه لا يشعر بكل من حوله بل يكون سابحاً في بحر من الألحان سامعاً لألحان ملائكية ترتل الطقوس الدينية أو في محراب للصلاة يرتل فيه القرآن، وكم نحن في اشتياق لدعوته مرة أخرى لإمتاعنا بعزفه السحري.