في ذكري ميلاده ..علمنا جمال عبد الناصر أن النصرْ ..يُحدِّدِهُ صِرَاعْ الإِرَادَاتْ بَينَ مُقَاتلِّ قَاتلْ.. وَمُقَاتِلِّ مُقَاوِمْ. والقتال ليس قاصرا ومرتبطا بالحرب وبالصراعات المعمدة بالدم، ولكنه في الأصل وثيق الصلة والتلاحم بالهدف العام والشامل لمجتمع في حالة حراك اجتماعي نحو التطور والتقدم والأمن. فمقاومة التخلف والسيطرة تمثل حالة صراع ومواجهة بين إرادة لمقاتل قاتل مغتصب يريد تثبيت حالة التبعية حيث يصبح التخلف أهم أدوات السيطرة والضَّامِنْ لاستمرار مواصلة الاستغلال، وبين إرادة مقاتل مقاوم يسعى إلي تحقيق الحرية من خلال بناء تنمية شاملة ترسي قواعد العدل الاجتماعي والتي على قاعدته يجري بناء الحرية السياسية في ظل حماية الأمن الوطني، لتخطي حالة التخلف القائمة واستبدالها بتحقيق التقدم المطلوب. وعليه فالإرادة المرتبطة بالأهداف المتوافقة أو المتضادة هي الوعاء الذي يختزن تحديد الاختيار للأفراد أو المجتمعات، وهي حالة تمثل صراع دائم ومستمر، وليس هناك أفق زمني تتوقف عنده حالة الصراع المرتبط بالإرادة .. لأن صيرورة الصراع مرتبطة أصلا بالإنسان. فإذا عدنا _ وباختصار شديد _ إلي التوصيف النظري عند الفلاسفة والمفكرين لنتعرف على تعريف مصطلح الإرادة، سوف يتبين لنا تعدد التفسيرات، والاختلاف بسبب تباين الأهداف التي تسعي الإرادة تحقيقها. فمن توصيف مفهوم الإرادة المرتبط بالبعد الإنساني عند (كانت)، إلي مفهوم الإرادة المستمد من عنصر أحادي وهو امتلاك القوة الغاشمة العارية واستخدامها عند (نيتشة)، مرورا إلي مفهوم الإرادة التي لا تعرف غير تحقيق المصالح لنخب اجتماعية ضيقة في تفسيرات (وليم جيمس)، وصولا إلي تعريف (شبنهور) المستمد من طبيعة الإرادة ذاتها والمرتبط بالعدالة والتوازن التي تكفل وتوفر الحماية لبقاء واستمرار وجود الإنسان. لكن التفسير الذي شاع وطغي على مجمل التفسيرات والتعريفات المتعلقة بمصطلح الإرادة ارتبط بتفسير الفيلسوف الألماني (نيتشه). ونعتقد أن مصدر شهرة مصطلح الارادة عند (نيتشه) ليس بسبب صحته، وليس بسبب قيمته الفكرية، وإنما بسبب النتائج التي ترتبت على تطبيقاته. فقد كانت تفسيرات (نيتشه) تمثل الأساس العقائدي والتطبيقي للنظم النازية والفاشية والصهيونية وجماعات الاتجار بالدين، والجميع يوحدهم المقصد المتمثل في السيطرة من خلال إخضاع وتوجيه العامل الاقتصادي الْمُسْتَغِلْ، وكانت النتائج ضحايا بملايين القتلى من كل جنس، ومن كل مِلِّة. والكارثة أن التهديد الذي بدئه (نيتشه) بالفكرة واعتمدته نظم الاستغلال والعنصرية وجماعات الاتجار بالدين بالممارسة كان موظفا في خدمة (المقاتل الغاصب والمستغل)، وسيظل يتجدد اللجوء إليه واستخدامه في المجتمعات التي تعيش حالات الضعف الاقتصادي، وغياب العدالة الاجتماعية، وتدني الثقافة، وضعف الأمن الداخلي إضافة إلي التهديدات الخارجية. على كل الأحوال فالإرادة في مختلف التفسيرات المتباينة ليست شيئا قدريا وإنما الإرادة هي في البداية والنهاية اختيار مستقل يرتبط بفعل وحركة الإنسان الفرد والدولة. مفهوم ومكونات الإرادة في الفكر والأداء الناصري: لم يجلس عبد الناصر وراء مكتبه يدخن سجائره بحثا عن إضافات لتنظيرات فلسفية أو سياسية. ولكن ما توصل إليه جمال عبد الناصر وأصبح له قيمة هو ما انتهت إليه الإرادة الثورية من تحقيق أهداف طبقت في إطار التجربة الناصرية، وبالتالي يمكن قياس وضبط قيمتها وتعريفاتها الفلسفية بالقياس على النظريات والتعريفات الفلسفية والسياسية والاجتماعية التي تَوَصَّلَ إليها الفلاسفة والمفكرين. وعبد الناصر لم يدعي أنه صاغ تفسير فلسفي لمفهوم الإرادة كم فعل (كانت)، أو (شبنهور) وغيرهم، ولكن مقولاته ومحصلة تجربته قد جعلت منها أرضا خصبة تُنْبِتْ صيغ فلسفية وفكرية قد نجدها إذا ما بذلنا جهدا في تجديد قراءة التجربة الناصرية. وعبد الناصر هو من سبق الجميع وأغلق أبواب النفاق في وجه أصحابها، فهو القائل وبكل تواضع: (لقد كان من أعظم الملامح في تجربتنا أننا لم ننهمك في النظريات بحثاً عن واقعنا ولكننا انهمكنا في واقعنا بحثاً عن النظريات). وهذه المقولة في حد ذاتها تمثل صياغة فلسفية وإضافة فكرية ذات قيمة، فمن أراد أن يطرح تصور فكري أو فلسفي متعلق بالإنسان عليه أن يكون سنده وزاده الفكري والفلسفي وليد المراجعة للواقع المرتبط بهذا الإنسان. هنا نتقدم لنأخذ مقولة تمثل نموذج نختبره على قاعدة تفسيرات مصطلح الإرادة عند الفلاسفة والمفكرين ولتكن مقولة عبد الناصر: "الذين يقاتلون يحق لهم أن يأملوا في النصر. والذين لا يقاتلون لا ينتظرون شيئا سوي القتل." قد يرى البعض أن هذا مجرد شعار سياسي يسعي إلي حشد سياسي يحقق مآرب سياسية. ولكن الكاتب يرى أن هذا الشعار له علاقة بتفسير وتحديد مفهوم الإرادة في الفكر الناصري، الذي له امتدادات في تفسيرات الفلاسفة والمفكرين لمفهوم الإرادة. فالمقولة السابقة تشتمل على عنصرين متناقضين: العنصر الأول: " الذين يقاتلون يحق لهم أن يأملوا في النصر" نلاحظ هنا أن القتال يمثل فعل وحركة لحالة ثورية تسعي لتغيير المجتمع والارتقاء به من وضع متخلف تابع إلي حالة متقدمة في البناء والأمن تحقق الاستقلال الوطني. هذا الانتقال من السالب إلي الموجب في الحراك الاجتماعي هو السند المؤسس والمانح لحقوق لمن قاتلوا وتحملوا عبئ ونتائج التغيير. إضافة إلي ذلك فهذا الشق يتسم بالتوازن، بين الفعل ومردوده، ومرتبط بتعريف الثورة في الفكر الناصري، فالثورة يعرفها الفكر الناصري بأنها (علم تغيير المجتمع). العنصر الثاني: أما العنصر الثاني من المقولة والمتعلق ب: " الذين لا يقاتلون لا ينتظرون شيئا سوي القتل." هذا الشق الثاني من المقولة يتسم بالسكون وغياب الفعل والحركة، بمعني غياب الارادة التي استبدلت بمنهج اليأس في التعامل مع الواقع المجتمعي. فكان شعار (ما فيش فايده) بمختلف ترجماته وصياغاته على مر عصور السيطرة والنهب والقهر التي عاشها الشعب المصري، شعار ظل مرافقا لمجمل الحياة الاجتماعية والسياسية قبل ثورة يوليو 1952، وهو ما تبنته النخب المستغلة ممن يحملون الهوية المصرية وتصدروا الإنابة عن الشعب. كان الواقع المنهزم والمتخلف دليلا شديد الوضوح على انتفاء وغياب الإرادة الثورية المقاومة، وبالتالي لم يتبقى لمن قبلوا التعامل مع الواقع المثقل باليأس أن يكونوا طرفا له حقوق، أو مطالب تتعلق بحقوق. فالإرادة لا توجد إلا في حالة واحدة عندما تكون إرادة فاعلة ومفعلة (سلبا أو إيجابا) ومرتبطة بهدف، فليس هناك ما يمكن أن يسمي بوجود إرادة خاملة أو غير فاعلة. يستكمل هذا النموذج السابق قائمة طويلة طويلة من المقولات التي صدرت عن جمال عبد الناصر أو احتوتها التجربة الناصرية من خلال التطبيقات خاصة في مجال العدالة الاجتماعية، كمقولة: " يد تبني .. ويد تحمل السلاح". هذه المقولة " يد تبني .. ويد تحمل السلاح" متعلقة فقط بعنصر الإرادة الثورية الفاعلة. وهي مقولة تختزن مضمون ومفهوم التنمية المستقلة الشاملة والأمن معا، فلا تنمية بغير أمن يضمن استمراراها وبقائها، ولا وجود لأمن بغير تنمية تدفع أعباء تكاليفه. بهذا يمكن أن نصل إلي توصيف لمفهوم الإرادة في الفكر الناصري حيث يمتزج فيها البعد الإنساني عند (كَانْتْ)، بالبعد المرتبط بطبيعة الإرادة ذاتها والمتعلق بحماية واستمرار وجود الإنسان عند (شبنهور). لهذا فمقياس الحكم والتصنيف لمدلول (الإرادة) في الفكر والتطبيق الناصري يحددها الاجابة على السؤال: هل تمكنت التجربة والارادة الثورية في اطار التجربة الناصرية من استرداد حقوق للكتلة الاجتماعية العظمي من الشعب المصري؟ الإجابة .. نعم. إذا فقد تحقق البعد الإنساني للإرادة في توصيف (كَانْتْ)، وتحقق ما وصفه (شبنهور) بالعنصر الذاتي للإرادة. لكن ما هي علاقة المقولة المتعلقة: أن النَّصْرْ ..يُحَدِّدِهُ صِرَاعْ الإِرَادَاتْ بَيْنَ مُقَاتِلِّ قَاتِلْ .. وَمُقَاتِلِّ مُقَاوِمْ ... في ظل الواقع الذي تعيشه مصر الآن؟ الإجابة هي أن الإرادة الثورية عندما يجري تفعيلها تصبح هي مفتاح الحل لكل مشاكل أي مجتمع، لأن حصاد الفعل الثوري مرتبط بالأهداف التي تؤسس حقوق أهمها تطبيق العدالة الاجتماعية التي من أجلها قامت الثورة كما سبق وبينا، وتحمل دفع تكاليفها المقاتل المقاوم. لكن حالة الشلل السائدة والمعيقة لحركة الإرادة الثورية الآن في مصر تتم بغرض مقصود ومطلوب، يفضحها الغطاء السياسي الهش الذي يعتمده رئيس الحكومة وعدد من وزرائه قائم على أن مصر تعيش فترة انتقالية تبرر: _ الخلل والعجز في أدوات التعامل مع الإرهاب. _ تعامل رئيس الوزراء وعدد من وزرائه مع الصراع الدائر بما يشبه الموقف الحيادي وبقرارات مائعة تتستر وراء شعار تطبيق القانون. _ أن أفضل الاختيارات للببلاوي ومجموعته هو تأجيل وترحيل كل المشاكل إلي ما بعد الانتخابات على الدستور ومنصب الرئاسة والبرلمان. من هنا يتقدم الكاتب إلي أن أفضل اساليب المواجهة مع الإرهاب حتى بعد الانتخابات هو العودة لاعتماد أسلوب الإرادة الثورية الذى طبقته ثورة يوليو 1952. فثورة يوليو تعاملت مع قوي السيطرة المحلية والأجنبية بنزع مصادر قوتها. فواجهت كبار ملاك الأراضي الزراعيين بقوانين الإصلاح الزراعي، وواجهت الرأسماليين المحليين والأجانب بالتأميم، وبهذا نزعت مصادر القوة التي مكنتهم من السيطرة على الحياة السياسية والاجتماعية لتصل في النهاية إلي عزلهم. ثم واجهت المقاتل القاتل والمغتصب البريطاني بالمواجهة المسلحة بشعب مصر حيث أصبح الشعب يمثل الجيش النظامي والمدني معا .. فدحرته. والآن وفي مواجهة الإرهاب المتمثل في جماعات الاتجار بالدين والسياسة، المدعومة بالتأييد والدعم من قبل المقاتل الأجنبي الذي ينحصر دوره بالمناور في التدخل السياسي والدعائي والضغط الاقتصادي. في مواجهة هذه المنظومة الإرهابية لا يصلح التعامل معها بغير تفعيل نموذج جري تطبيقه في إطار تجاربنا الثورية اعتمدته ثورة يوليو وقدمت من خلاله نموذجا ناجحا في المواجهة. فالنصر على الإرهاب لن يتحقق عبر الأحزاب والتنظيمات التي يتكرر ذكر أسمائها في نشرات الأخبار وفي الحوانيت التلفزيونية، فدورها تعرى تماما، ولم يتبقى لها غير الظهور في الإعلانات السياسية بعناوين مختلفة باختلاف أسماء البرامج التلفزيونية !!! ومن يتابع سيتأكد أن هدف المتاجرين بالأحاديث في سوق السياسة، هو أن تستمر حالة اللغط الممل الذي من كثرة تكراره لنفس العبارات والأفكار، أن تحولت إلي طنطنة من الأحاديث تشبه المأثورات الشعبية مجهولة المصدر، وأسوأ ما فعلته هذه الطنطنة أنها أزاحت طرحا جادا لمفكرين وطنيين ضاع جهدهم في سوق عكاظ. فمثلا: وصلت حالة اللغط وتركزت حول المقارنة بين ثورة يوليو وثورة يناير / يونيو. وراح كل معتوه يجزئ ويقسم تاريخ الشعب، فيعزل بالغباء وبالتعسف وبالتآمر بين تجاربنا الثورية لينتهي الأمر إلي أن ما قام به الشعب المصري عبر تاريخه المرتبط بالمقاومة هو عبث لا يرتقي في تحليلات هؤلاء المأجورين إلي ما يمكن أن ينطبق عليه تعريف الثورة. وما يقترحه الكاتب بالعودة إلي تبني أسلوب المواجهة مع الإرهاب الآن بمنهج ثورة يوليو لم يكن بغرض المقارنة بين ثورة وثورة، ولا بقصد التجزئة بين ثورة وثورة، ولا قصد منه التقليل من قيمة وعظمة الثورة الشعبية الثورية التي تحققت في يناير/ يونيو. وإنما بني مقترح الكاتب على وحدة التاريخ الثوري المقاوم للشعب المصري، لأنها تقدم منظومة واحدة متكاملة مشرفة ومبهرة، تلغي كل التناقضات المفتعلة التي تحاول أطراف المقاتل القاتل والغاصب من ترويجها، لتصل في النهاية إلي خلق حالة من التشويش والبلبلة لا تخدم سوي مصالح المقاتل القاتل والمغتصب. وتأكيدا على ما سبق الاشارة إليه فإن ثورة يوليو تجد قيمها الثورية ودورها يتجدد عندما ترفع ثورة يناير/ يونيو، المطالبة باستعادة المفاتيح السيادية للدولة المصرية التي سلمتها الثورة المضادة عام 1974 للإدارة الأمريكية. في الوقت الذي يصبح من حق ثورة يناير/ يونيو أن تتفاخر بأنها أول ثورة شعبية بكل المقاييس، وأنها رافد جديد له قيمة متميزة ومتفردة يضاف إلي وحدة التاريخ الثوري المقاوم للشعب المصري. وهذا أمر طبيعي ومنطقي يفسده ويشوهه التجزئة. وما يسعى إليه الآن أصحاب الأحزاب والحوانيت السياسية أن لا يتحقق تفعيل وحدة الإرادة الثورية في الواقع، وأن يجري تجزئتها ووضعها على مسار التناقضات والخلافات الوهمية مما يستهلك الجهد وقد يقود إلي انحراف في مسار الثورة. فتحالفات (المقاتل القاتل والمغتصب) أدركت أن المواجهة التي يتعرضون لها الآن في مصر لم تعد مواجهة تقليدية، وهذا واضح بفعل تكوين أطراف الصراع، فهم الآن يواجهون قوي اجتماعية مختلفة نوعيا في مكوناتها وحركتها، وفي وسائل التعبير، والأهداف المرتبطة بالتغيير. من هنا يتبين وبالقين أن حتمية النصر في النهاية ستكون من نصيب الشعب المصري الذي عبرنا عنه رمزيا (بالمقاتل المقاوم)، وهزيمة إرادة المقاتل القاتل والغاصب ونرمز لها بمنظومة جماعات الاتجار بالدين وبالسياسة في تحالف وثيق مع قوي متخلفة وعميلة في الإقليم.. وجميعهم يمارسون أدورا حددها المشروع الأطلسي / الصهيوني. فالكتلة الشعبية الفاعلة الآن لم تعد تلك الكتلة اليائسة والمنزوعة الإرادة الثورية والتي داست بأقدامها على شعارات التأييس، فما جري لهذه الجماهير من تحولات نوعية سيمكنها من أن تفرض شروطها، وأن تقطع يد ولسان كل من يحاول تجزئة وحدة المقاومة الثورية المصرية. فالشعب المصري تحول إلي شعب مقاتل مقاوم في أكثريته، وتجلي هذا في استعداده لدفع تكاليف حريته من دماء أبنائه، ليحقق انتصارا لإرادته الثورية، فيتحقق له ما وعدت به مقولة عبد الناصر في أن يأمل في النصر وفي جوائزه.