تؤكد مقولة شائعة أن "الصورة تساوي ألف كلمة"، وهي مقولة صحيحة في كثير من الأحيان. ما لا تشيع عنه مقولات مماثلة هي الرسوم البيانية التي تحفل بها تقارير المتخصصين ويجد المواطن العادي صعوبة كبيرة في فهمها ومن ثم يغيب عن معظمنا حقيقة أن الواحد من هذه الرسوم قد يساوي آلاف الكلمات. عادة يبدو الرسم البياني بسيطا للغاية لا يعدو أن يكون مستطيلا يحدد أبعاده محور أفقي وآخر رأسي وفي المستطيل نفسه يتعرج منحنى ما يمثل العلاقة بين المحورين. ولكن ما يختزله المنحنى في صعوده أو هبوطه قد يكون مصائر ملايين البشر عبر عدة عقود! في حالات بعينها قد يكون الجمع بين اثنين من هذه المنحنيات العجيبة كافيا في ذاته لرواية قصة حياة شعب خلال عدة سنوات. وهذا بعينه ما قد تراه في رسم بياني يمثل ببساطة معدلين يفترض نظريا أنهما شديدا الارتباط بعضهما ببعض، فالأول هو معدل نمو الاقتصاد المصري خلال الأعوام الأخيرة لحكم الديكتاتور المخلوع، أما الآخر فهو معدل شعور الناس في مصر بمستوى معيشتهم خلال الأعوام ذاتها. وفق الإحصائيات الرسمية للمؤسسات المصرية والعالمية فإن المنحنى الممثل للمعدل الأول يتحرك صعودا دون توقف، أما الثاني فقد شهد في الفترة ذاتها انحدارا مستمرا دون توقف أيضا! وفي المستطيل الذي جمعهما معا رسم المنحنيان حرف X اللاتيني أو علامة الضرب في الحساب. هذان المنحنيان معا يقدمان تفسيرا واضحا لحال مصر في السنوات الأخيرة وما مر بها من أحداث. فمنحنى مستوى المعيشة يفسر لماذا ثار المصريون في 25 يناير 2011، بعد عقود تدحرجت فيه مستويات معيشة الغالبية العظمى منها فوق ذلك المنحنى في انحدار مستمر. وحقيقة أن هذا المنحنى قد استمر في اتجاه الانحدار في سنوات ما بعد الثورة يفسر لماذا تستمر حالة السيولة السياسية بغض النظر عن مظاهرها المختلفة المتقلبة بين البرم بسلطة وإسقاطها ثم الترحيب بسلطة جديدة لبعض الوقت قبل التبرم بها وإسقاطها بدورها، حدث ذلك مع العسكر في فترتهم الانتقالية الأولى وحدث مع الإخوان بعد انتخاب أحدهم رئيسا للجمهورية وهو الآن يمر بمرحلة شهر العسل مع العسكر في الفترة الانتقالية الثانية. قد تختلف الشعارات المرفوعة في كل مرحلة بما يتناسب مع من يحكم ومع ما يمكن قوله تفسيرا للترحيب به أولا ثم التنديد به لاحقا. ولكن الشعارات السياسية ما هي إلا تجريدات يطلقها المثقفون والنخبة ويستخدمها الناس العاديون فقط لأنه لا بديل خاص بهم يعبر عن تأرجح مشاعرهم بين الأمل واليأس والغضب. المفارقة بين المنحنيين هي تحديدا ما يفسر لماذا فشل المخلوع وبطانته في الحفاظ على استقرار منظومتهم رغم نجاحها في تحقيق النمو الاقتصادي، ولماذا تبوء بالفشل محاولات الحكومات المتعاقبة بعد الثورة في تحقيق الاستقرار رغم ما بذلته من جهد لعلاج ما أصاب منحنى النمو الاقتصادي من عطب، وأهم من ذلك هو يفسر لماذا يمكننا التنبؤ بفشل الحكومة الحالية في تحقيق الاستقرار رغم ما يبدو من مظاهر توحي بأن حظها من النجاح في علاج مشاكل منحنى النمو أكبر من سابقاتها. التفسير البسيط أن منحنى النمو الصاعد وحده لا يكفي وإلا لما ثار المصريون ضد الديكتاتور المخلوع بادئ الأمر. النمو بالطبع ضرورة طبيعية لحياة أي مجتمع ولكن السؤال الأكثر أهمية دائما هو؛ من يجني ثمار النمو ومن يدفع تكلفته؟ والإجابة التي يقدمها منحنى مستوى المعيشة الهابط هي أن الغالبية لا تصل إليها ثمار النمو بل إنها تدفع تكلفته كاملة بينما يذهب كل شيء إلى جيوب من تتضخم ثرواتهم طول الوقت. لا يحدث أي من ذلك صدفة بالطبع وإنما هو نتيجة لسياسات بعينها تنتهجها الحكومات المتعاقبة سواء في عهد الرئيس المخلوع أو في عهد من أتوا بعده ولم يغيروا شيئا منها. في ظل هذه السياسات فإن النمو يعني تشريد عدد من العمال أكثر من هؤلاء الذين يتم استيعابهم في وظائف جديدة، وهو يعني تشريد آلافا من المنتجين من المزارعين والحرفيين بطردهم من مساكنهم وأراضيهم، والنمو أيضا يعني مزيدا من الأعباء على موازنة الدولة ما دام كل مستثمر جديد يتلقى من الإعفاءات الضريبية والجمركية ودعم الطاقة لمصانعه والدعم النقدي لصادراته أكثر كثيرا مما يسدده من ضرائب للدولة هذا إن سدد ضرائبه أصلا، وفي المقابل يدفع هذا المستثمر أجورا لا تحقق لعماله حد الكفاية مما يتركهم أنصاف متبطلين عن العمل وعبئا على المجتمع بأكثر من صورة، وتسدد الدولة هذه الأعباء جميعها من حصيلة ضرائب يتحمل معظمها في الواقع موظفو القطاعين العام والخاص الذين لا يترك لهم حد الإعفاء قدرا من دخلهم يوفر لهم حتى الحد الأدنى من الحياة الكريمة. لقد ذهبت كل محاولات الكثيرين للتنبيه إلى ضرورة تعديل السياسات الاقتصادية التي تتمسك بها الحكومات المصرية المتعاقبة هباء، فيما يبقى الصوت المسموع لدى هؤلاء هو صوت أصحاب الجيوب المتخمة، وصوت شبكات مصالحهم المعقدة معهم. وفي حين كرر وزراء الحكومات المتعاقبة الوعد بأن تكون التنمية في الأساس لصالح الغالبية العظمى من فقراء مصر فإن واقع ما يفعلونه هو على عكس تصريحاتهم. وحتى عندما يأتي تنفيذ الحكومة لأحد المطالب القديمة متأخرا، فإنه يأتي ناقصا إلى حد أن يكون أثره عكسيا، والنموذج الأوضح هو قرار حكومة الببلاوي برفع الحد الأدنى للأجور إلى 1200 جنيه في الشهر. وإن تجاهلنا أن الرقم كان محتسبا منذ 5 أعوام وهو لا يمثل حاليا الحد الأدنى الكافي لحياة كريمة لأسرة من 4 أفراد (معدل الإعالة في مصر هو أن كل شخص عامل يعول 3 أفراد آخرين من أسرته)، فإن حكومة الببلاوي فشلت في فرض هذا الحد الأدنى على القطاع الخاص الذي يقل فيه متوسط الأجور عما هي عليه في القطاع العام والحكومي، بغض النظر عن التصورات الساذجة لكثيرين. بل إن هذه الحكومة قد فشلت في تحديد رقم مناسب كحد أقصى للأجور في القطاع العام والحكومي، وحتى الرقم المبالغ فيه الذي قررته تواجه مصاعب بالغة في فرضه على مماليك البيروقراطية المدنية ممن تصل دخول بعضهم إلى مئات الألاف في الشهر. ولا يزال بإمكان بعض المتبجحين أن يؤكدوا أن حدا أقصى يبلغ 42 ألف جنيه في الشهر غير كافي للحفاظ على بعض الكفاءات النادرة بين موظفي ومستشاري القطاع الحكومي، ولا أدري أي كفاءات نادرة تلك التي تقود جهازا بيروقراطيا هو واحد من الأكثر فشلا وفسادا على وجه الأرض! ولماذا علينا أن ندفع عدة مليارات سنويا للحفاظ على منجزاتهم العظيمة في الحفاظ على معدلات الفشل والفساد؟ "منحدر الصعود" كان واحدا من التعبيرات الغريبة التي أطلقها الرئيس المعزول "محمد مرسي" في فترة رئاسته. وبغض النظر عن فكاهية التعبير في سياقه فربما يكون واحدا من تلك الإلهامات النادرة غير المقصودة مثل تساؤله العبقري عما يفعل القراداتي إن مات القرد! وبعيدا عما يراد لنا من الانشغال بحال القرداتي والقرد، فإن استمرار تعلق أنظار حكامنا بمنحنى النمو الصاعد مستخدمين في العودة إليه ذات السياسات المنحازة عمدا إلى أصحاب الكروش الضخمة والجيوب المتخمة هو ما يقودنا إلى مزيد من الانحدار لمستويات معيشة الأغلبية وهو بالتالي ما يجعل الاستقرار حلما بعيد المنال. "منحدر الصعود" إذا هو التعبير الأمثل لهذه العلاقة المريبة بين منحنيا النمو وآثاره العكسية، وهو بذلك التعبير الأمثل عن واقع سياسي يظن من يديرونه أن مسلسل ملاحقة القرداتي اليائس يمكن أن يبقى لمدة طويلة عنصر إلهاء كاف للناس عن ظروف حياتهم اليومية التي تزداد سوءًا، وأن القمع السياسي لأي أصوات معارضة أخرى كفيل بإبعاد شبح انتفاضة جديدة. وفي الحالتين يتمسك هؤلاء بسياسة التفكير المتعشم (أي أن تحتفظ بصورة للواقع مبنية على آمالك غير المنطقية بدلا من أن تنبني على عناصر هذا الواقع نفسه)، ولكن الحقيقة أن الواقع دائما يفرض حقيقة معطياته بغض النظر عن أمنيات وأوهام الجميع، وبالنسبة لمن يفضلون معايشة أوهامهم عن فهم الواقع فإن لحظة تبدد هذه الأوهام لا تكون فقط مفاجئة أو صادمة بل غالبا ما تكون كارثية وقاضية لا على أحلامهم وحدها بل على وجودهم نفسه.