بات من الواضح أن هناك مؤشرات تشي بأن الاستفتاء على مسودة الدستور يراد له أن يكرر ما حدث مع استفتاء 19 مارس 2011، الذي شق مصر شقا، وقسمها إلى شعبين؛ أحدهما ينظر إلى نفسه باعتباره ‘شعب الله المختار'؛ يحتكر الإيمان وينصب ميزان الحساب ويمسك بمفاتيح الجنة والنار، والشعب الثاني سدت في وجهه الرحمة، ودُمغ بالكفر والخلود في جهنم وبئس المصير. ومع أن الغالبية العظمى لم تعد تأبه بتلك الدعاوى، فهي ليست من صفات البشر، ويطويها عالم الغيب الذي لا يعرفه أحد، وهي دعاوى مزيفة للتمكين من الثروة والحكم والنفوذ. وتلخصت خطيئة الشعب الثاني في قول ‘لا'، وذلك هو ‘الكفر' بعينه، الذي حول الحياة إلى جحيم قبل حلول يوم الحساب، وأقام فريق من المصريين جهنم حقيقية على الأرض.. تتغذى بحرق الأخضر واليابس، وتهدر الدماء.. وتزهق الأرواح، ونجح هذا الفريق في إثبات أن الجحيم صناعة بشرية بامتياز؛ تنسب زورا وبهتانا إلى الذات الإلهية، وليس هناك جحيم أكثر إيلاما من جحيم البشر ضد البشر. وسواء صوت المواطن ب'نعم أو لا' في الاستفتاء لصالح مشروع الدستور الجديد أو ضده، فمن المتوقع ألا يغير من الوضع كثيرا، ولن يحقق الاستقرار المأمول، الذي ما زال بعيد المنال. فضلا عن أنه ليس بالدستور وحده تستقر الأمم وتتقدم الشعوب وتقوى الدول؛ فبلد متقدم ومستقر مثل بريطانيا ليس لديه دستور مكتوب، ويسير بهدي ما يمكن أن أسميه ‘القانون المتحرك'؛ على قواعد أشبه بالعرف الناتج عن تفاعل القوى السياسية داخل البرلمان وخارجه، وعن ما يستخلص من التراث القانوني وأحكام المحكمة العليا، وتصاغ في نصوص قانونية؛ تضبط المجتمع، وتستجيب لحاجاته، وتتصدى لأزماته، وتعمل على رفاهيته. ودعاوى الاستقرار لتزكية التصويت ب'نعم' يعوقها ركام من المحاولات الفاشلة والممارسات القاصرة، خلال السنوات الثلاث الماضية، وكله نتاج انتخابات واستفتاءات تلك الفترة. وأخطر ما في الاستفتاء أنه قد يهيئ لحدوث ‘الاختطاف الثاني' للثورة؛ فكم من استفتاء جرى؟ ومن انتخاب تم؟ وكم من صندوق مليء؟ وكم من أوراق اُستُهلكت؟، وأموال بُددت؟ ولم يحل الاستقرار، والبحث عن الأسباب يضع اليد على بيت الداء؛ الكامن في النقل والتقليد والخوف من الاجتهاد والتجديد، فالسلفي يعنيه تقليد السابقين في مجالي حفظ النصوص واستنساخ فتاوى الأئمة، والمذهبي يغوص في خزائن الأسفار القديمة، ويتمثل حياة واضعي المذهب وشيوخه، والسير على خطاهم، ويعود بعقارب الساعة قرونا إلى الوراء، والانعزالي مسكون بالأساطير والأوهام الشوفينية أكثر من وقائع التاريخ، وما آل إليه التطور، أما ‘المستشرق' المصري فبوصلته دائما صوب الغرب؛ خاصة واشنطن وتل أبيب ويتوجه إليه (الغرب) مسلما بما يطلب حتى لو كان التدخل في شؤون شعبه والإقدام على احتلاله، والأزمة الراهنة هي ‘أزمة عقل'، وتحريره هو الخطوة الأولى للثقة بالنفس والجرأة في الاجتهاد. المجتمعات لا تستقر إذا ما تحولت المنافسات السياسية إلى ‘غزوات'، لا تدرأ شرا ولا تجلب نفعا، وإلى استجداء الدعم الخارجي والقبول بتبعاته، وإلى ترسيخ شيفونية بائسة زادت نبرتها حدة بعد ثورتين عظميين، وهذه النبرة وكأنها تتحدث عن بلد غير مصر التي عرفناها، ونجد من يتحدث بلغة لم تعتدها الأذن من قبل، ويصرح ويكتب ويبث وينشر بأن ‘مصر فوق الجميع′، وهو لا يجهل أنه شعار مرادف لشعار النازية ‘ألمانيا فوق الجميع′، وجلب عليها الهزيمة والاستسلام، وقد كانت الأكثر تفوقا والأقوى عدة وعتادا، ومصر رفعت لواء الوحدة وسعت لنصرة الأشقاء والجيران والأصدقاء، ولكنها تعاني من جماعات وإعلام مهمته الصراخ في وجه هؤلاء ‘مصر أولا'، بنفس انعزالي استعلائي متعمد؛ لجلب الخراب والفقر، وتشويه وجه ذلك البلد العريق، الذي لا يملك ترف الابتعاد عن أشقائه وجيرانه وأصدقائه، ولا يستطيع أخلاقيا أن يعطيهم ظهره، ومصر لن تعود إلى ما كانت عليه ما دام فيها ذلك الهتاف النازي وهذه الصرخة الانعزالية. أوضاع مصر ازدادت سوءا بعد استفتاءات وانتخابات السنوات القليلة الماضية. وقيل بعد ثورة يناير بصلاحية العمل بدستور 1971، وانه يحتاج إلى تعديل 6 مواد منه فقط لتجديد هذه الصلاحية، وأقبل الناس على المشاركة بحماس بالغ، وأبدوا رأيهم في المواد الست محل التعديل من دستور كان قد وُضع على الرف مدة ثلاثين عاما هي عمر حكم عائلة مبارك، وقد حكمت بقانون الطوارئ، ولم تكن تشعر أنها بحاجه لدستور يقيدها، وجاء استفتاء 19 مارس 2011 مقدمة لإهانات بالغة للشعب بعد ثورة يناير، وتوالت الإهانات ولم تتوقف؛ لم تُعدل المواد الست ولم يبق دستور 1971، وحل محله إعلان دستوري من 60 مادة في 30 مارس 2011 وكأنه يتوج لأول ‘غزوات الصناديق' الطائفية في مصر.. واستمر ذلك الإعلان الدستوري لأربعة عشر شهرا، وألحق بإعلان مكمل قبيل انتقال السلطة إلى محمد مرسي بأيام. وترعرع في كنف ذلك الإعلان الدستوري نفوذ الطوائف التي أخذت في الظهور في مصر تباعا. أصدر محمد مرسي في سنة حكمه إعلانيين دستوريين في نوفمبر 2012 وألحقهما بدستور في 25 ديسمبر من نفس العام، وبعد عزله جُمّد دستوره، لصالح ‘خارطة الطريق'، التي تبعها إعلان دستوري أصدره الرئيس عدلي منصور في 8 يوليو 2013، وخلال أيام ستشهد مصر استفتاءا على ‘تعديل' دستور مرسي المجمد، وفي الحقيقة أنه استفتاء على دستور جديد!؛ وهذا الإزدواج في التوصيف عبر عن ارتباك وعشوائية؛ أفقدت الكلمات والمفردات معانيها الحقيقية، فتتم الدعوة لتعديل ما وتنتهي بإلغاء الأصل دون تنويه أو اعتذار. ولو حسبناها بدقة فسوف نجد أن متوسط إصدار الإعلانات الدستورية والدساتير يأتي بمعدل إعلان دستوري أو دستور كل ستة أشهر، وكثرة العدد لم تُصلح الحال، بجانب أنها ليست وحدها طريق الاستقرار، وما زالت الجدوى منها محدودة، والسر كامن في ضحالة المعرفة، وضعف القناعات، وسد الخانات، والتسابق على الحصص والغنائم، وحين يأتي الحصاد نجده شديد المرارة، وحتى الآن لم تحقق الاستفتاءات ولا الدساتير المساواة بين المواطنين؛ ولم تنجز شيئا ذا بال على جبهة العدل الاجتماعي، وما زالت حكومات ما بعد الثورتين شديدة الانحياز لعشوائية تصرفات الأثرياء والسماسرة ولا أقول الرأسماليين، فالرأسماليون في بلاد الغرب يخضعون للقانون وضوابطه، وضرائبهم هي التي تغطي برامج التعليم والرعاية الصحية والقانونية والاجتماعية والإنسانية، فلم نسمع عن خطوة حقيقية لانتشال الفقراء والقضاء على الفقر في بلد قادر على ذلك، وحكومات هذا البلد القادر تمنح حصصا وأنصبة للطوائف وأصحاب المذاهب والفرق والعشائر والجاليات، ويسلبون الفلاحين والعمال؛ الأغلبية العظمى من الشعب؛ حقهم المكتسب والمشروع لأكثر من نصف قرن، وهو نسبتهم المقررة (50′ على الأقل) في التمثيل بالمجالس المنتخبة، وهي خطوة لم يقدم عليها أكثر حكام مصر فسادا وأشدهم تجبرا واحتقارا للشعب، وهي حقبة ‘الرئيس الموازي' جمال مبارك!!. ومعيار تحديد نجاح وفشل الانتخابات والاستفتاءات هو الموقف من الثورة، فما زالت هي الخاسر الحقيقي فيها. ومهما قيل عن الدستور القادم، ووصفه بأنه أرقى وأعظم الدساتير، والادعاء بأنه دستور الثورة سبق وأُسبِغت هذه الصفة على دستور مرسي؛ بنفس الألفاظ والمفردات! وأسوأ ما في مشروع الدستور الجديد هو أن يكون عمرو موسى رئيسا للجنة إعداده، ومن أكثر المشاركين في صياغته، بما يملك من قوة ناعمة تمكنه من إفساد أي شيء، وبما لديه من إمكانية تعكير صفو مياه بحار ومحيطات العالم، ويقترف الخطايا دون أن تهتز له شعرة، وسجلت بعضها على هذه الصفحة السبت قبل الماضي، منها واحدة كفيلة بتقديمه للمحاكمة وليس مكافأته برئاسة لجنة إعداد الدستور، هي مكافأة أضعفت الثقة في اللجنة وفي نتاج عملها، فموسى هو أول من سعى لإهداء غاز مصر للدولة الصهيونية. واختياره لهذه اللجنة ليس صدفة، ولم يكن عبثا، ويمثل كارثة من المتوقع أن تتفاعل مع الأيام حين الكشف عمن اختاره، وعما دار في الغرف المغلقة. ووجدت عند مطالعة صحيفة ‘المصري اليوم' ليوم الثلاثاء الماضي (10/ 12/ 13) أنني لست وحدي الذي لا يثق بعمرو موسى، وثبت لي وأنا أقرأ ما كتب الصديق أمين اسكندر وأن أنعدام ثقتي بعمرو موسى في محلها، وتناول اسكندر ما وصفه ب'خيانة الأمانة' في صياغة ديباجة الدستور، كاشفا عن وقائع تزوير قام بها موسى وعن تلاعب باللغة، غير به وصف نظام الدولة بأنه مدني، إلى وصف حكومتها بأنها مدنية، واستشهد اسكندر بقول الشاعر الكبير سيد حجاب: ‘المسودة خرجت عن النص الذي كتبته بيدي'. وعزز اسكندر اتهامه بتعليق ممثل الكنيسة في اللجنة يقول فيه: ‘إن عمرو موسى وشلته هم الواقفون خلف التعديل الذي وقع في أكثر من مادة، منها نظامها مدني إلى حكومة مدنية، ومنها حذف تنوع مصادر التشريع في الجزء الخاص بتعريف مبادئ الشريعة الإسلامية' وتوقع اسكندر لجوء البعض إلى القضاء وطلب وقف الاستفتاء إذا لم تتم معالجة الأخطاء بشفافية وعدالة، ‘وكل هذا من جراء خيانة الأمانة وفهلوة التصرف' على حد قوله، ويعمل موسى على اتخاذ رئاسته للجنة الدستور جسرا يعبر به إلى رئاسة الجمهورية، وسوف يكون الرئيس الأسوأ في التاريخ المصري، إذا ما فاز لا قدر الله!!. ومع ذلك لست متشائما، فهذه محاولات تزيد من خبرة الثوار، وتصقل قدراتهم مع كل ما يلوح في الأفق من احتمال تعرض الثورة ل'الاختطاف الثاني'، وسوف نسمع من المختطفين الجدد نفس ما كان يردده المختطفون الأوائل؛ بأنهم من فجروا الثورة وهي مصدر شرعية حكمهم، فيصدق عليهم قول الشاعر الفحل أبو العتاهية: ‘وكل يدعي وصلا بسلمى.. وسلمى لا تقر لهم بذاك'.