على الرغم من أن المد الثوري والاحتجاجي في الدول العربية تمحور حول مركزية المطالب الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن النظم السياسية الحاكمة لم تتمكن من التعامل معها واحتوائها، بما أدي إلي تفجر أزمات سياسية متتابعة وموجات من عدم الاستقرار الداخلي التي تهدد بقاء واستقرار تلك النظم، بحيث بات السخط المجتمعي يساهم بشكل مباشر في تآكل شرعية النظم السياسية وتصاعد المطالب المجتمعية بإسقاط أركانها ورموزها وتفجر أعمال العنف وتزايد النزعات الانفصالية وتصدع بنية الدولة الوطنية، بما يستتبع مزيدًا من التردي الاقتصادي مع تراجع تدفقات الاستثمار وتزايد معدلات البطالة وركود قطاعات محورية مثل السياحة والخدمات، فيما يشبه "مسار دائري" متصل بين تفاقم عدم الاستقرار وتردي الأوضاع الاقتصادية، على نحو يعبر عن التغذية المتبادلة بينهما. انحدار اجتماعي لا تكاد تختلف المُحفِّزات الاقتصادية لعدم الاستقرار السياسي علي امتداد الدول العربية، لا سيما فيما يتعلق بالتلازم الوثيق بين تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية واحتدام الصراع علي السلطة بين قوي المعارضة الرئيسية ونظم الحكم، بما يتمخض عن تتابع موجات الاحتجاج وتقويض قدرة نظم الحكم علي تحقيق التنمية، وتتمثل تلك المُحفِّزات الاقتصادية فيما يلي: 1 ارتفاع معدلات البطالة: يعد تصاعد معدلات البطالة أحد أهم دوافع تآكل الرضاء الشعبي عن نظم الحكم العربية، حيث أظهرت تقارير دائرة الإحصاءات الأردنية، في 6 أكتوبر الجاري، تصاعد معدل البطالة إلي 14% مقابل 13.1% عام 2012، بينما تصل هذه النسبة إلي 20.6% بين الشباب ذوي التعليم الجامعي وهم القطاع الأكثر قابلية للمشاركة في الاحتجاجات، والأمر ذاته ينطبق علي تونس التي بلغ معدل البطالة فيها حوالي 15.9% بحلول مطلع سبتمبر الفائت، في حين تصل هذه النسبة في مصر إلي حوالي 13.5%، وعلي الرغم من عدم تجاوزها 9% في المغرب، إلا أنها تبلغ 30% بين الشباب، بما يزيد من زخم الاحتجاجات، وتعد السودان واليمن من أكثر الدول العربية معاناة من البطالة حيث تصل معدلات البطالة في السودان إلي 18% وفي اليمن إلي 36%. 2 تزايد الركود الاقتصادي: تسيطر علي الدول العربية حالة من الركود الاقتصادي وتراجع معدلات النمو، حيث لم تتجاوز هذه المعدلات 3.6% في تونس، و3% في الأردن، و2.5% في مصر، و1% في لبنان، و0.1% في اليمن، بينما توقع صندوق النقد الدولي، في تقرير صادر في 9 أكتوبر الجاري، تراجع معدلات النمو في الجزائر إلي 3.1%، ويرتبط ذلك بارتفاع معدلات التضخم في هذه الدول لتصل إلي 30.4% في السودان، و14.5% في اليمن، و10.1% في مصر، و8.8% في لبنان، و6.5% في الأردن، و5.8% في تونس، و4.7% في الجزائر، بما يعني ارتفاع أسعار مختلف السلع الأساسية وزيادة الضغوط الاقتصادية علي المواطنين. 3 اتساع نطاق الفقر: أضحي انتشار الفقر في الدول العربية بمثابة أحد مشتركات الأوضاع الاجتماعية المتردية، حيث وصلت نسبة الفقر في اليمن إلي مستويات قياسية قاربت 54.4%، بينما بلغت في السودان 46.6%، وفي مصر 40%، وهي النسبة ذاتها تقريبًا في موريتانيا، بينما لا تقل نسب الفقر في المغرب عن 14.2%، ونتيجة الاختلال الهيكلي في توزيع عوائد التنمية فإن الفقر عادة ما يتركز في المناطق الطرفية المهمشة مثل محافظات الجنوب في اليمن والمناطق الريفية الأمازيغية في المغرب، بما يؤجج الاضطرابات السياسية والميول الانفصالية في تلك المناطق. 4 تردي الأمن الإنساني: باتت أزمات الأمن الإنساني التي تمس الاحتياجات الأساسية للمواطنين أحد الإشكاليات المركزية التي تقوض شرعية نظم الحكم، حيث بلغت نسبة انعدام الأمن الغذائي في اليمن 44.5%، وأضحي حوالي 13.1 مليون يمني لا يستطيعون الحصول على مياه صالحة للشرب، و6.4 مليون يمني لا يحصلون علي الرعاية الصحية، بينما يعاني حوالي 50% من سكان الأردن من نقص إمدادات المياه، في حين تصل أوضاع الأمن الإنساني في موريتانيا إلي مستويات كارثية حيث يعاني 50% من السكان من عدم الحصول علي إمدادات المياه النظيفة و22% من عدم الحصول علي الخدمات الصحية. 5 رفع أسعار المحروقات: يمثل تقليص الحكومات العربية الدعم لإمدادات الطاقة أحد أهم مُحفِّزات عدم الاستقرار الداخلي، إذ تسبب اتخاذ الحكومة السودانية قرار رفع أسعار المحروقات بنسب تقارب 40% في تفجر الاحتجاجات قبيل نهاية سبتمبر الفائت، وهو السيناريو ذاته الذي شهدته المغرب بعد رفع أسعار المحروقات بنسب تتراوح بين 15% و20% في يونيو الماضي، ثم في مطلع أكتوبر الجاري، بينما نجحت حكومة عبد الله النسور في الأردن في رفع أسعار المحروقات بصورة تدريجية بنسب تتراوح بين 3% و5% في أغسطس الماضي، علي الرغم مما أثارته تلك القرارات من احتجاجات واسعة النطاق في سبتمبر 2012. تهديدات البقاء تؤدي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية في الدول العربية إلي تقويض قدرة نظم الحكم علي الحفاظ علي بقائها، لا سيما في ظل السياقات السياسية الضاغطة وفي خضم صراعات السلطة المحتدمة منذ اندلاع الثورات العربية، إذ تتسبب تلك التعقيدات في فرض تحديات سياسية علي النظم السياسية، يتمثل أهمها فيما يلي: 1 تفجر الموجات الاحتجاجية: وتعد الموجة الثورية الراهنة التي يواجهها نظام الرئيس السوداني عمر البشير منذ رفع أسعار المحروقات قبيل نهاية سبتمبر الفائت، مثالا علي مدي تأثير الإخفاقات الاقتصادية والتهميش الاجتماعي علي تآكل شرعية نظم الحكم وتداعي أركانها، وهو ما ينطبق أيضًا علي الأردن التي تشهد موجات احتجاجية متتالية منذ سبتمبر 2012، علي وقع زيادة أسعار المحروقات والتقليص التدريجي للدعم السلعي، كما شهدت المغرب احتجاجات مناوئة للسياسات الاقتصادية التي تبنتها حكومة عبد الإله بنكيران خاصة فيما يتعلق بأسعار المحروقات والدعم السلعي وتقليص استحقاقات التقاعد. 2 تصاعد ضغوط المعارضة: تؤدي الظروف الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة إلي تصاعد قدرات المعارضة في الضغط علي نظم الحكم وإجبارها علي تقديم تنازلات من خلال الاستناد للاحتجاجات الشعبية، ويرتبط ذلك بتأسيس تحالفات لأحزاب المعارضة مثل "تحالف تنسيقية التغيير" في السودان، وتحالف "الاتحاد من أجل تونس" بزعامة حزب "نداء تونس" الذي يرأسه الباجي قائد السبسي، وتحالفات المعارضة الجزائرية بقيادة حركة "مجتمع السلم"- الذراع السياسي للإخوان المسلمين- بهدف الوصول لمرشح معارض توافقي لخوض الانتخابات الرئاسية في مواجهة "العهدة الرابعة" للرئيس الجزائري الحالي عبدالعزيز بوتفليقة، حيث تستغل تلك التحالفات القضايا الاقتصادية والاجتماعية كأداة دعائية في مواجهة النظام. 3 انهيار نظم الحكم: قد يفرض تآكل شرعية الإنجاز لنظم الحكم العربية تهديدات جدية بتداعي سيطرتهم علي السلطة، علي غرار استجابة حزب "النهضة" التونسي لضغوط المعارضة السياسية لتشكيل حكومة إنقاذ وطني محايدة في ظل ضغوط حزب "التكتل الديمقراطي" المشارك في الترويكا الحاكمة و"الاتحاد العام للشغل" الممثل للنقابات المهنية وحركة "نداء تونس"، بيد أن الحوار الوطني حول الحكومة شهد تعثرًا في مطلع أكتوبر الجاري بسبب تمسك حركة النهضة بتمثيلها في التشكيل الحكومي الجديد، وعلي الرغم من نجاح رئيس الوزراء المغربي عبد الإله بنكيران وحزب "العدالة والتنمية" في تشكيل ائتلاف جديد بمشاركة حزب "التجمع الوطني للأحرار" وتجاوز تهديدات الانتخابات المبكرة عقب انسحاب حزب "الاستقلال" من الائتلاف الحاكم، إلا أن الخلافات الأيديولوجية بين مكونات الائتلاف تظل قائمة لتهدد بتفككه خاصة فيما يتعلق بقضايا الدعم واستحقاقات التقاعد وتحرير أسعار السلع الغذائية والسياسات الاقتصادية الليبرالية التي يتبناها حزب "العدالة والتنمية". 4 تزايد المطالبات الانفصالية: يؤدي التوزيع غير المتوازن للتنمية والضغوط الاقتصادية إلي تأجيج المطالب الانفصالية، ففي اليمن تم تعليق مؤتمر الحوار الوطني في 9 أكتوبر الجاري، بسبب مقاطعة ممثلي الحراك الجنوبي والحوثيين للجلسات الختامية للضغط علي الرئيس عبد ربه منصور هادي للاستجابة لمطالب تتعلق بتقسيم الدولة فيدراليًا إلي أقاليم ذات صلاحيات واسعة خاصة الجنوب وصعدة في الشمال، والأمر ذاته ينطبق علي السودان في ظل مشاركة حركة تحرير شمال السودان في الموجة الثورية الأخيرة واحتدام الصراع بين نظام البشير والمتمردين في دارفور وكردفان والنيل الأزرق خاصة حركة العدل والمساواة وجيش تحرير السودان، بينما تواجه الحكومة المغربية نشاطًا متصاعدًا من جانب تنظيمات أمازيغية مثل "الشبكة الأمازيغية من أجل المواطنة" التي أطلقت حملة إعلامية شعبية قبيل نهاية سبتمبر الفائت، للتنديد بما اعتبرته سياسة تمييزية ضد الأمازيغ والمطالبة باعتماد اللغة الأمازيغية كإحدي اللغات الرسمية للدولة. 5 احتدام أعمال العنف: تُهيئ الأوضاع الاقتصادية الضاغطة في الدول العربية سياقًا مواتيًا لانتشار العنف والإرهاب، فالتهميش الاقتصادي في سيناء يعد أحد العوامل المسببة لانتشار التنظيمات التكفيرية وتصاعد أنشطتها الإرهابية في الآونة الأخيرة وامتدادها لمحيط العاصمة علي غرار عمليات استهداف مناطق تمركز الشرطة العسكرية في ميدان الرماية بالجيزة وحي المعادي التي تبناها تنظيم "كتائب الفرقان" ومحاولات استهداف حركة الملاحة بقناة السويس، وهو ما يتكرر في تونس، إذ تتصاعد الأعمال الإرهابية في جبل الشعانبي، وفي اليمن حيث تتزايد أنشطة تنظيم القاعدة في محافظتي مأرب وأبين. أولوية التنمية تهدد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية في الدول العربية باستدامة موجات عدم الاستقرار السياسي والتفجر المتتالي للثورات التي قد تؤدي إلي تداعي نظم الحكم التي لم تعد تحظي بحد أدني من القبول الشعبي، بما يجعل تجاوز التحديات التنموية وتحقيق الأمن الإنساني واستعادة الثقة في علاقة نظم الحكم بالمجتمع محكًا رئيسيًا في احتواء الاحتجاجات المتتالية والمطالبات الانفصالية والعنف المتصاعد والتصدي لأنشطة التنظيمات الإرهابية التي تتمركز في المناطق الطرفية الرخوة التي تعاني من التهميش الاقتصادي والاجتماعي. وفي النهاية، يمكن القول إن تعقيدات الترابط بين تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والاستقرار السياسي، تجعل الاكتفاء بالأدوات الأمنية قاصرًا في مواجهة الاحتجاجات وأعمال العنف والأنشطة الإرهابية، إذ لن تؤدي تلك الأدوات سوي إلي مزيد من تصاعد عدم الاستقرار بانعكاساته الكارثية علي قطاعات اقتصادية مركزية مثل السياحة والخدمات وتراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي، بما يسهم في المحصلة النهائية في تقويض شرعية نظم الحكم وتزايد احتمالات انهيارها تحت وطأة الغليان الاجتماعي والرفض الشعبي للإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية. محمد عبدالله يونس مدرس مساعد العلوم السياسية- جامعة القاهرة