تشهد بيئة الاستثمار في دول الثورات العربية حالة من التراجع الكبير مع تواصل الاضطرابات منذ اوائل عام2011 وحتي الان, وبالرغم من انه مازال مبكرا وضع تقييم دقيق للآثار الطويلة المدي لهذه الاحداث علي الاستثمارات الاجنبية فإن البيانات المتاحة تفيد بانخفاض حجم الاستثمار الاجنبي الوافد الي الدول العربية بنسبة37.4% إثر اندلاع هذه الاحداث بحيث وصل في عام2011 الي43 مليار دولار بعد ان حقق68.6 مليار دولار في عام2010 وفقا للتقرير السنوي السادس للاتحاد العام للغرف التجارية ويرجع ذلك الي قيام بعض المستثمرين بمراجعة خططهم الاستثمارية في المنطقة سواء بالسحب الكلي لاستثماراتهم او بتعليق اعمالهم لفترة او بإعادة توزيع هذه الاستثمارات بين دول المنطقة, ويعزي استمرار هذا الاتجاه خلال المستقبل المنظور, الي فقدان الثقة في بيئة العمل الاستثماري في هذه الدول لما تشهده من تحولات سياسية عميقة وتراجع اقتصادي شديد فضلا عن تصاعد حدة الاضطرابات الامنية والاجتماعية. *قنوات متشابكة: تكاملت مجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية في التأثير السلبي علي النشاط الاستثماري, ولاسيما الاجنبي بعد اندلاع الثورات العربية بحيث دفعت هذه العوامل التي كثيرا ما كانت المحرك لازدهار هذه الاقتصادات نحو تدهور الاداء الاقتصادي ويمكن حصر اهم هذه العوامل في التالي: 1 الاضطرابات السياسية: يرجع تدفق الاستثمارات الاجنبية وخاصة الخليجية الي دول الثورات العربية قبيل الربيع العربي لاسيما في مصر وتونس في جزء مهم منها, الي استقرار الانظمة السياسية في هذه الدول, وهو المتغير ذاته الذي هوي بتلك الاستثمارات بعد ذلك في ظل تزايد حدة الاحتجاجات السياسية والاضطرابات الامنية منذ عام2011 ويصبح الامر اكثر وضوحا مع الوضع في الاعتبار ترتيب هذه الدول وفق مؤشر الدول الفاشلة, حيث حصلت كل من تونس ومصر وسوريا واليمن علي ترتيب8,32,31,94 علي التوالي وهو ما يعني انها حققت مستويات اعلي مقارنة بترتيب العام السابق وبما يعكس مزيدا من التدهور في الاوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بشكل ادي الي هروب الاستثمارات الاجنبية بسبب تراجع الأداء الاقتصادي وما تتسم به بيئة العمل من عدم توازن خاصة فيما يتعلق بالتغيرات في السياسة الضريبية والمطالب الفئوية بتغيير مستويات الاجور فضلا عن تراجع امكانية الحصول علي الائتمان. 2 ارتفاع معدلات التضخم: شهدت دول الثورات العربية زيادة كبيرة في معدلات التضخم مؤخرا فوفقا لبيانات عام2012 التي نشرتها مجلة فوربس الشرق الاوسط بالتعاون مع صندوق النقد الدولي جاءت ثلاث من دول الثورات العربية ضمن اكبر خمس دول عربية من حيث ارتفاع معدلات التضخم وهي اليمن15% تلتها ليبيا10%, مصر9%, وهو ما يعود بشكل كبير الي تراجع معدلات نمو الناتج الاجمالي المحلي في هذه الدول, مسجلا في مصر بالاسعار الثابتة انخفاضا من5.2% الي1.8% وفي تونس3.5% الي سالب1.5% واليمن من6.8 إلي17.8% طبقا لتقديرات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام2012 ويأتي ذلك في ضوء عدم استقرار اسعار صرف العملات المحلية في هذه الدول وارتفاع اسعار المحروقات في بعض هذه الدول ولاسيما الدول المستوردة للنفط كمصر وتونس وتعطل شبكات توزيع السلع وانتشار احتكارات السلع الاساسية وهو ما ادي الي مضاعفة تكاليف الانتاج. 3 تراجع بيئة ممارسة الأعمال: انخفض ترتيب معظم دول الثورات العربية فيما يتعلق بمناخ ممارسة الاعمال بعد الثورات لعدة أسباب من أهمها توقف الاصلاحات في هذه الدولد بسبب تزايد حدة الاضطرابات المصاحبة للمراحل الانتقالية, فعلي سبيل المثال أوضح تقرير ممارسة الاعمال لعام2014 الذي يصدره البنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية تراجع ترتيب مصر فيما يتعلق بمؤشر سهولة ممارسة الاعمال ليصل الي المرتبة128 في عام2013 مقارنة بالمرتبة108 في عام2012, فرغم حدوث تحسن نسبي في ثلاث من بين المجالات العشرة لممارسة الاعمال, وهي مجالات بدء النشاط التجاري, والتجارة عبر الحدود, والحصول علي الائتمان, الا أن هناك الكثير من المجالات التي تحتاج الي مزيد من الاصلاحات وهي مجالات انفاذ العقود, واستخراج تراخيص البناء, ودفع الضرائب. ومن المتوقع تزايد وتيرة التدهور في بيئة الاعمال إثر اعلان الحكومة لاجراءات رفع الحد الادني للأجور, وتزايد احتمالات تعديل الهيكل الضريبي المتعلق بالشركات وبما قد يؤدي الي تضييق الخناق علي المستثمرين وهروب رءوس الاموال. مستقبل غامض: كرد فعل علي التدهور المستمر في بيئة الاعمال شهدت دول الثورات العربية مؤخرا محاولات عدة في سبيل تحقيق الاستقرار السياسي, يلازمها تغير في المسارات الحكومية من خلال اعلان سياسات محفزة علي جذب الشركات الاجنبية الي بيئة العمل الاستثماري المحلية من جديد. ففي مصر, التي تعد واحدة من أكبر دول الثورات العربية جذبا للاستثمارات الاجنبية, قررت الحكومات المختلفة بعد الثورة الابقاء علي دعم الطاقة الموجه للشركات, الذي يذهب في معظمه الي قطاع الصناعة وخاصة الصناعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة كالاسمنت والاسمدة والحديد والصلب والالومنيوم والسيراميك, الذي تستفيد من اغلبه شركات متعددة الجنسيات مثل لافراج الفرنسية وهولكم السويسرية عملاقتي الاسمنت اللتين تحوزان علي ما يقرب من ثلث الانتاج وحوالي80% من الصادرات المصرية من الاسمنت, وهي سياسة تضمن استمرار الشركات الموجودة بالفعل في هذه القطاعات علي الاقل في الاجل القصير. كما ساهمت حزم المساعدات الخليجية الداعمة للمسار الانتقالي بعد ثورة30 يونيو في تعزيز الاستقرار الاقتصادي علي المستوي الكلي, سواء فيما يتعلق بالعجز المالي في الموازنة العامة أو فيما يتصل بالعجز الخارجي في الميزان التجاري, الأمر الذي انعكس وبشكل سريع في استقرار قيمة الجنيه المصري في مقابل العملات الاجنبية خاصة الدولار, وبما يدفع في اتجاه استمرار عمل الشركات المتعددة الجنسيات في السوق المصري ولو بشكل جزئي, وبما يقلل من عوامل عدم اليقين تجاه الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المستقبل. وشرعت الحكومة الانتقالية ايضا في تبني سياسات اقتصادية لتعزيز وتنويع فرص نمو الاستثمارات الاجنبية, من خلال تقديم حزمة من الحوافز والاعفاءات الاستثمارية التي تتضمن اعفاءات ضريبية وجمركية, قد تتمكن من زيادة الاستثمارات الاجنبية في قطاعات معينة ولاسيما في القطاعات الانتاجية مثل الصناعات غير الكثيفة استخدام الطاقة, والقطاعات المستقبلية مثل المواد الطبية والبرامج الالكترونية, والقطاعات التصديرية مثل الصناعات الغذائية والمنسوجات, وذلك بالاضافة الي الاتجاهات التقليدية التي كانت تفضل الاستثمار في المشروعات المصرفية والعقارية والصناعات الكثيفة استخدام الطاقة, وجميعها تتسم بعلاقاتها التشابكية المحدودة مع باقي القطاعات وقدرتها الضعيفة علي خلق فرص عمل. خلاصة القول إنه وعلي الرغم من المخاطر والتحديات التي تحيط بالاستثمارات الاجنبية في اقتصادات دول الثورات العربية, فإن هذه الدول في أمس الحاجة الي الاستفادة من كل الفرص التي من شأنها أن تساهم في علاج حالة التردي التي تعاني منها, ولاسيما أن هذه الاستثمارات الاجنبية تعوض ضعف معدلات الادخار المحلية في هذه الدول, كما أنها تسد قسما كبيرا من فجوة النقد الاجنبي اللازم للاستيراد, اضافة الي أنها توفر ايضا منافع اجتماعية غير مباشرة من خلال خلق فرص عمل, الأمر الذي يستدعي معه اتخاذ كل التدابير اللازمة لاستعادة ثقة هؤلاء المستثمرين. أعد الدراسة: وحدة الدراسات الاقتصادية بالمركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية