كان نفسي أكون إخوان!!! هذه الفكرة راودتني عدة مرات، معبرة عن مشاعر الغيرة بأبسط معانيها. مكانها: جامعة عين شمس، وزمانها: السنوات الأولي من التسعينيات. حين ينظم الإخوان المسلمين إحدى تظاهراتهم بحرم الجامعة، يبدأونها بالمئات، في صفوف منظمة، وعند “ذيلها” تقف الأخوات مطيعات وصامتات. نظام بالغ، شبه عسكري، وحزم حديدي في توحيد الهتاف والشعارات. كانت أقرب للاستعراضات منها للتظاهرات، يرج الجامعة هتافهم (شرع الله عز وجل... الإسلام هو الحل)، يساعدهم علي هذه السيطرة الصوتية، ميكروفون حديث وقوي، لا تعرف كيف أدخلوه للحرم الجامعي. الأمن لا يتدخل، ويراقبهم عن بعد. يلفت النظر أن من يقود هذه المظاهرات، وهذه الهتافات، هو شخص يكبرنا بأعوام، يرتدي بدلة كاملة، ولا يشبه طلاب الجامعة “المبهدلين” ممن يحيطونه. أما نحن، طلاب القوي الوطنية والديمقراطية واليسارية، علي اختلاف مسمياتها، فتبدأ مظاهراتنا بكثير من الفوضي. لا نتجاوز عادة العشرين شخصا في بداياتها، جميعنا نريد قيادة الهتاف، ونقاطع بعضنا البعض، غالبا “بالصوت الحياني” دون ميكروفون، وإن وجد فهو من ميكروفونات العتبة، الرديئة. عادة ما يتدخل الأمن ببلطجيته لضربنا. وعند نهايات مظاهراتنا، تعقد الاجتماعات المفتوحة، لينضم إليها أي طالب أو طالبة، “ولاد امبارح”، ليقولوا رأيهم، وربما لينتقدونا نحن أيضا، بقلة أدب وعدم احترام للأقدمية!!! نحن أيضا كنا “ولاد امبارح”، مثلهم، نجلس في تنظيماتنا السرية أو العلنية، مع قيادات سياسية يرجع تاريخها النضالي لعقود قبلنا، وربما للأربعينيات، لنناقشها ولنختلف معها، وراسنا براسها. وربما نقوم بالتصويت ضدها في الاجتماعات، ومطالبتها بالنقد الذاتي. مر حوالي العشرين عاما، ولم أكتشف سر هذا الرجل الأنيق، صاحب البدلة، الممسك بالميكروفون الزاعق في مظاهرات الإخوان. هل أدرك القارئ سر غيرتي من الأخوان؟ سر هذه الرغبة المتحسرة التي راودتني في بعض اللحظات؟ جاءت ثورة يناير لتقلب كل الأشياء، ولتجعل الجميع يبدأ من جديد، ولتجعلني لا أشعر بهذه الغيرة. حتي يوم موقعة الجمل لم تراودني الغيرة، حين كنت أنظر للإخوان نظرة إعجاب بنظامهم وانضباطهم عند صفوف المواجهة الأولي، التي بالمناسبة لم يكونوا بها بمفردهم، مثلما قالوا. غابت الغيرة لأننا، جميعا، كنا معا، نضع المتاريس، ونبدأ من جديد، من الصفر. البعض علمه يناير الكثير، والبعض الآخر يبدو وكأنه لم يتعلم شيئا. خلال الأيام الأخيرة بدأ الحديث المكثف حول التوافق، ضرورة استعادته، وضرورة العودة للصفوف الموحدة، ونبذ الفرقة. المقصود بهذا الحديث هو إعادة التقارب بين القوي الإسلامية من ناحية، والقوي السياسية الديمقراطية والليبرالية واليسارية، التي شاركت في الثورة من ناحية أخري. لا يقصد بالتوافق أحزاب الديكور المباركي، فهم لم يشاركوا أصلا في هذه الثورة، ساوموا عليها منذ البداية كتابعين، كذيول لمن يحقق لهم ولو جزءا من مصالحهم الضيقة. القيادة الحالية لحزب الوفد هي أفضل النماذج في هذا السياق، حين تخلع ملابسها كاملة لمجرد أن تنجو بوزيرين في حكومة انتقالية عديمة الصلاحية. أعتقد بأن الإخوان هم من يقفون وراء هذه المحاولات “للمصالحة”. بعد اكتشافهم أن حسبتهم طلعت خسرانة وبأنهم قد تسرعوا. تصوروا أن الضغط علي القوي الأخري، إرهابها وتكفير مواقفها السياسية، سيجعلها تتراجع، ومعها الشارع، لتمنح الإخوان من جديد الهدايا المجانية. كالتي منحت إليهم الأيام الأولي من الثورة، حين تصور البعض أن “تحت القبة شيخ”، فطرحت أفكارا حول الاهتداء بالنموذج التركي. إلا أن هذه المرة، وبسبب الوجود الشعبي الحاسم، لم تقع القوي الديمقراطية في المطب مرة أخري... واجهوا الإخوان، وأثبتوا عبر عدد من المظاهرات، أن القوي الإسلامية ليست مالكة للشارع. وتحت ضغط هذه المواجهة ودعوات عزل الإخوان، يضطر هؤلاء لطرح دعوات التوافق. بكلمات أخري: تأجيل تطبيق التجربة الخومينية التي حاولوا تطبيقها في اللحظة الخطأ!!! قام الخوميني بذبح خصومه السياسيين، الذين كانوا قد شاركوه في الثورة، بعد انتصاره، وفي لحظة قوته. إلا أن خطأ الإخوان تمثل في تصورهم المتسرع، بأن اقترابهم من المجلس العسكري المباركي، ودوائر النظام الحاكم بعد 11 فبرابر، كان كافيا، فحاولوا ذبح التيارات الأخري، سياسيا، وتكفيرها، قبل أن تحسم المعركة. ودون الانتباه إلي أن الشارع مايزال متيقظا، لم يقبل بعد بالسلطة الجديدة، ويعي أنها نفس السلطة القديمة. بدأ خطاب التكفير والتخوين من قادتهم وعناصرهم مبكرا، بتصريحات صبحي صالح قصيرة النظر ومنعدمة اللياقة. واكبها يافطات “حكم الله لقول نعم” في التعديلات الدستورية، وصولا للأيام القليلة، قبل وبعد 8 يوليو، يوم انسحابهم المرتبك والفضائحي من الميادين. التكفير والتخوين لم يتوقف عند الخصوم، بل امتد لشبابهم وبعض قياداتهم، عبد المنعم أبو الفتوح علي سبيل المثال. تكفير كل من يختلف مع الشيوخ الجالسين في الغرف المغلقة وصفقاتهم المشبوهة. تكفير كل من يحاول الاحتماء بالشعب، واستكمال الثورة في الشوارع والميادين. وتخوين كل من يثير علامات الاستفهام حول عملية التذلل لمجلس مبارك العسكري والنظام الفاسد الذي يحكم مصر الآن. الحديث بالطبع لا يقتصر علي الإخوان، فهذه اللعبة هي سلاح القوي الدينية في أغلبها، مع استثناءات محدودة. يلتقي في ساحة اللعب عصام العريان مع سليم العوا، الأول يدعو لتقديم الجناة قربانا للشعب حتي يصمت هذا الشعب و”يروح”. والثاني يقول بوضوح أن (الاعتصام فوضي وحرام). ويلتقي بساحة اللعب ممثلو بعض العصابات السلفية، الذين عملوا كموظفين لأمن الدولة سابقا، مع عاصم عبد الماجد، قائد الجماعة الإسلامية، والذي كان ضحية تعذيب أمن الدولة، قبل أن يشارك في إطلاق المبادرات السلمية، التي من الممكن تسميتها “مبادرات إستسلام الأسير المكسور”!!! قانون اللعبة هو أن الشعب سوف يُرمي به في الجحيم إن لم يستجب لصوت الحق الإسلامي!!! أو أن الشعب هو الجحيم ذاته!!! إن لم يقبل بالاتفاقات الانتهازية التي يجريها “بوابين الجنة” مع المجلس العسكري والأمريكان، لتقسيم الكعكة. المخطط لم يخرج كما تصوروه، ربما يكون السر هو انعدام السرية ذاتها، وانتهاء حالة الغموض، التي كانت مفيدة للإخوان أكثر من أي قوي أخري. وربما يكون السر الآخر في فشل المخطط حاليا هو عدم فهم اللاعبين لهوية الشباب المتواجد بالشوارع، ومن ضمنهم شباب الإخوان أنفسهم. وبالتالي الجهل بأن الطرف الآخر ليس القوي السياسية المنافسة، مثلما كان الوضع قبل يناير... وأن من يقف في الشارع هو الشعب نفسه... الآلاف من غير المنتمين لأي أحزاب، لديهم طاقة ووعي ثوري يجعلهم مصرين علي إنجاح ثورتهم. فإن تصورت أنهم الآخر، أنهم الجحيم، وأنهم يمارسون الكفر، فهذا هو انتحارك. إن تحدثنا عن الشباب، فهم علي عكس جيلي، جيل الثمانينات والتسعينيات، لم يضطروا لحفظ جدول الضرب، لا تنفع معهم هيكليات السمع والطاعة التقليدية، التي لا يعيش الإخوان بدونها، لا ينبهرون بالرجل صاحب البدلة وبالصفوف المنظمة، ولا يجدي معهم الكذب والدعاية الساذجة. وإن تحدثنا عن الدعاية، فأفضل الأمثلة هي المناظرة السياسية التلفزيونية المضحكة، التي تمت مساء يوم 8 يوليو، بعد انسحاب الإخوان من الميادين، بين أحد عناصرهم وأحد الشباب المعتصمين. قال عنصر “الجماعة” في سياق الزهو والدعاية: (الإخوان شاركوا منذ اللحظة الأولي في الثورة وقدموا شهداء يوم 25 يناير)، فيصحح له الشاب المعتصم: (لم يسقط أصلا أي شهيد يوم 25 يناير). فيكرر العنصر الإخواني نفس العبارة، بميكانيكية، وكأنه لم يسمع شيئا. فيبدو وكأن من أعد مداخلته، في فيلا المقطم، قد قال له: (أنت بس ركز علي إننا قدمنا شهداء من أول يوم)!!! كيف نطالبه إذا، نحن الشعب المنتمي للجحيم، بالخروج عن السيناريو إن كان “بواب الجنة” رسم له طريقا آخر؟. إحدى السمات الجديدة لشوارع مصر ما بعد يناير، هي أنها ضد السمع والطاعة. شوارع تثق في ذاتها وفي قدرتها علي الانتصار. لا يتم ابتزازها بخطاب التكفير والتخوين. ولا تنسجم مع فكرة التفويض والتوكيل أيا كان شكلها، وأيا كان الشخص الذي سيتم تفويضه أو توكيله. فهذه الشوارع قد بدأت في ممارسة بعض “الفوضي” الإيجابية، بكل ما تحمله من إمكانيات للمبادرة، وبدأت في ممارسة بعض الديمقراطية الشعبية أيضا، حتي لو كان ثمنها هو الجحيم. التوافق والتصالح مع الشارع، والخروج من العزلة، يتم فقط عبر انصياعك لبرنامج هذا الشارع، والدخول إلي “جحيمه“!!! مثلما بدأنا بالتسعينيات، ننهي بها، برباعية لصلاح جاهين، كنا نرددها أيامها كثيرا، ولم يتصور الشاعر أن القوي الإسلامية ستمنحها معان جديدة بعد كتابتها بعقود: البط شال عدي الجبال والبحور / ياما نفسي أهج... أحج ويا الطيور / أوصيك يا ربي لما أموت... والنبي / ماتودنيش الجنة... للجنة سور. باسل رمسيس [email protected]